يعبر الشعر عن تنازع البقاء وعن صيرورة الإنسان في الوجود. وكما تختلف على الإنسان أحوال من الغبطة والرضا والتفاؤل، فإنه، يعاني، كذلك، أحوالاً من الوحشة والانقباض والتشاؤم. فهو يرى إلى الناس بمحبة وأخوة، حيناً وحيناً آخر يرى إليهم بعداوة وقسوة، ناقماً، حاقداً على تصرفاتهم. ولعل الوحشة والانقباض والنقمة والحمد والعداوة، لعل هذه الأح...
قراءة الكل
يعبر الشعر عن تنازع البقاء وعن صيرورة الإنسان في الوجود. وكما تختلف على الإنسان أحوال من الغبطة والرضا والتفاؤل، فإنه، يعاني، كذلك، أحوالاً من الوحشة والانقباض والتشاؤم. فهو يرى إلى الناس بمحبة وأخوة، حيناً وحيناً آخر يرى إليهم بعداوة وقسوة، ناقماً، حاقداً على تصرفاتهم. ولعل الوحشة والانقباض والنقمة والحمد والعداوة، لعل هذه الأحوال جميعاً، تتعقد في نفس الشاعر وتتضاعف، وتتطور وتنصهر، بعضاً ببعض في أعماق الوجدان، وتصدر إلى الخارج بهجاء فيه كثير من الملامح المشوهة، المنكرة، التي ليست، في الواقع، سوى تعبير مادي محسوس، عن تلك الظلال الشعورية، الموحشة، الغائرة في أبعاد النفس. وهكذا، فإن الهجاء هو نقيض للفخر، أو بالأخرى أنه وجه آخر سلبي له.فالشاعر قد يفتخر بنفسه بتعداد مآثرها، ولكنه يفخر بها، أيضاً بإظهار نقمتها وسويدائها من الرذائل والبشاعة، أكانت في الفرد أو في المجموعة. ولئن كان الفخر تعبيراً عن النفس التي ترى من الوجود وجوه الحسن والأمل، فإن الهجاء يعبر عن وجوه القبح واليأس. إنه تجسيد لملامح الشر والاختلال والشعور بالنقص والاختلاف. لهذا يتحقق لنا أن الفخر يغلب في البيئات البدائية على الهجاء.ولا نحستن أن الهجاء ينعدم في البيئات البدائية. بل على العكس، فإنه قد يظهر، في أحيان كثيرة، إلى جنب الفخر، لأنه امتداد له ومبالغة فيه. لكن هذا النوع من الهجاء هو هجاء سلبي، لا يظهر فيه رأس الإنسان المنجني، ولا سويداؤه المتجهمة، ولا أحداقه الفارغة المظلمة في جمجمة الوجود. لهذا فإننا نقبل على الهجاء الجاهلي ونكاد لا نشهد فيه إلا صورة من حياة الإنسان القديم الذي ما برح يتصارع في سبيل تحصيل اللقمة، بينما يمثل الهجاء الحضري تصارع الإنسان في سبيل اكتشاف الغاية الكبرى التي تجعله يشعر أن لحياته معنى، وتحرره من الشعور بالتفاهة والعقم واللاجدوى.وتهتم الدراسة التي بين يدينا بدراسة فن الهجاء وتطوره عند العرب بدءاً من العصر الجاهلي ومروراً بصدر الإسلام والعصر الأموي، وانتهاءً بالعصر العباسي، كما واهتمت الدراسة بتحليل المظاهر المختلفة لهذا الهجاء من خلال شعر كل من الحطيئة، الأخطل، جرير، بشار بن برد، أبي نواس، دعبل، ابن الرومي، وأخيراً أبي الطيب المتنبي ملمة في الآن ذاته بسيرة هؤلاء الشعراء وبالخصائص العامة التي اشتمل عليها شعر هؤلاء في الهجاء، فضلاً عن الخصائص التي تميز كلاً منهم عن الآخر.