هـٰذا كتاب « الرسالة » للإمام الشافعي رضي الله عنه ، وكفى الشافعي مدحاً أنه الشافعي ، وكفى « الرسالة » تقريظاً أنها تأليف الإمام الشافعي ، وكفانا فخراً أن ننشر بين الناس علم الشافعي ، مع العلم بأنه نهىٰ عن تقليده وتقليد غيره .نشأ الإمام الشافعي يتيماً في حجر أمه في قلة عيش وضيق حال ، وكان في صباه يجالس العلماء ويكتب ما يستفيده ف...
قراءة الكل
هـٰذا كتاب « الرسالة » للإمام الشافعي رضي الله عنه ، وكفى الشافعي مدحاً أنه الشافعي ، وكفى « الرسالة » تقريظاً أنها تأليف الإمام الشافعي ، وكفانا فخراً أن ننشر بين الناس علم الشافعي ، مع العلم بأنه نهىٰ عن تقليده وتقليد غيره .نشأ الإمام الشافعي يتيماً في حجر أمه في قلة عيش وضيق حال ، وكان في صباه يجالس العلماء ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها ؛ لعجزه عن الورق حتىٰ ملأ منه حِباباً ، بدأ بالشعر في مكة ، ولما التقىٰ أول مرة بمسلم بن خالد الزنجي . .نصحه فقال : ( ألا جعلت فهمك هـٰذا في الفقه فكان أحسن بك؟ ) فأخذت هـٰذه الكلمة مأخذها ، فحضر عنده وأخذ عنه .ثم ارتحل إلى الإمام مالك في المدينة وقرأ عليه « الموطأ » حفظاً ، فأعجبته قراءته ، ولازم مالكاً ، ومما قاله له : ( اتق الله ؛ فإنه سيكون لك شأن ) ، وفي رواية : ( إن الله تعالىٰ قد ألقىٰ علىٰ قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية ) إنها فراسة المؤمن .وأمره شيخه مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة بالإفتاء فقال : ( أفت يا أبا عبد الله ؛ فقد والله آن لك أن تفتي ) وسنه إذ ذاك : خمس عشرة سنة ، وقال حرملة : ( رأيت الشافعي يقرئ الناس في المسجد الحرام وهو ابن ثلاث عشرة سنة ) .لقد كان رضي الله عنه من أنواع المحاسن بالمحل الأعلىٰ والمقام الأسنىٰ ؛ لما جمعه الله الكريم له من الخيرات ، ووفقه له من جميل الصفات ؛ فمن ذلك : شرف نسبه ومولده ونشأته ، وحفظه لكتاب ربه وسنة نبيه ^ ، ومعرفته بالحديث صحيحه وسقيمه ، وناسخه ومنسوخه ، وتقدمه علىٰ أقرانه وأهل زمانه في اللغة ؛ فإن كلامه حجة عند أهل اللغة ، وتصدر بتآليفه بما حوته من آرائه القديمة والجديدة ، فانتشر علمه وذاع صيته ، فسارت بذكره الركبان .قال الربيع : ( سمعت الشافعي يقول : رأيت رسول الله ^ في المنام قبل حلمي ، فقال لي : « يا غلام » ، فقلت : لبيك يا رسول الله ، قال : « ممن أنت؟ » ، قلت : من رهطك ، قال : « ادنُ مني » ، فدنوت منه ، ففتح فمي ، فأمَرَّ ريقه علىٰ لساني وفمي وشفتي ، وقال : « امضِ بارك الله فيك » ، فما أذكر أني لحنتُ في حديث بعد ذلك ولا شعر ) .قال حرملة : ( كان أبي قد رتب لي كاتباً ـ أي : وظَّفه للكتابة ـ بأجرة وقال للكاتب : اكتب كل ما تكلم به الشافعي ) .كتب إليه الإمام الحافظ عبد الرحمـٰن بن مهدي يسأله أن يكتب له كتاباً ؛ فقد قال علي بن المديني رحمه الله : قلت لمحمد بن إدريس : ( أجب عبد الرحمـٰن بن مهدي عن كتابه ؛ فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلىٰ جوابك ، قال : فأجابه الشافعي ، وهو كتاب « الرسالة » التي كتبت عنه بالعراق ، وإنما هي رسالته إلىٰ عبد الرحمـٰن بن مهدي ) .وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحارث بن سريج ، والذي اشتهر بعد ذلك بـ ( النقَّال ) ، بسبب نقله « الرسالة » إلى ابن مهدي ، فظهر سبب تسمية الكتاب بذلك .وهـٰذه المعروفة بـ« الرسالة القديمة » وقد فُقدت ، وليس بين أيدي الناس إلا « الرسالة الجديدة » التي أعاد تأليفها الإمام لما رجع إلىٰ مصر .وكتاب « الرسالة » أول كتاب أُلِّف في أصول الفقه ، فوضع للخلق قانوناً كلياً يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع .فأُعجب عبد الرحمـٰن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان بكتاب « الرسالة » ، وكذلك أهل عصرهما ومن بعدهما إلىٰ أن يرث الله الأرض ومن عليها .قال الحسن بن محمد الزعفراني : ( كان أصحاب الحديث رقوداً فأيقظهم الشافعي ، فتيقظوا ) .وقال أحمد ابن حنبل : ( ما أحد مسَّ محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في رقبته مِنَّة ) .قال المزني : ( قرأت « الرسالة » خمس مئة مرة ، ما من مرة . .إلا واستفدت منها فائدة جديدة ) ، وقال المزني أيضاً : ( أنا أنظر في « الرسالة » من خمسين سنة ، ما أعلم أني نظرت فيها مرة . .إلا استفدت منها شيئاً لم أكن أعرفه ) .أراد الإمام الشافعي أن ينتفع الناس بعلمه دون أن يُنسب إليه شيء من العلم ، فكان كظله تركه فتبعه ، رضي الله عن الإمام وأرضاه ، قال الربيع : سمعت الشافعي يقول : ( أُريت في المنام كأنَّ آتياً أتاني فحمل كتبي ، فبثَّها في الهواء ، فسألت بعض المعبرين ، فقال : إن صدقت رؤياك . .لم يبق بلدٌ من بلاد الإسلام إلا ودخل علمك فيه ) .قال الإمام النووي ـ وهو يعدد فضائل الإمام الشافعي ــ : ( ومن ذلك : ما جاء في الحديث المشهور : « إن عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً » وحمله العلماء المتقدمون والمتأخرون على الشافعي رحمه الله ) هـٰذه قطرة من بحر جود هـٰذا الإمام الهمام ، الذي ملأ الدنيا علماً ، وأتعب من جاء بعده حقاً .قال الربيع : ( رأيت في النوم : أن آدم عليه السلام مات ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : هـٰذا موت أعلم أهل الأرض ؛ لأن الله تعالىٰ علَّم آدم الأسماء كلها ، فما كان إلا يسيراً فمات الشافعي ) رضي الله تعالىٰ عنه وأرضاه ، وجعل الجنة مأواه ، وحشرنا بمعيته مع سيد المرسلين ؛ إنه سميع مجيب .وها هي دار المنهاج وليس غريباً عنها تتحفنا بأول سفر في علم الأصول ، وتبعثه من جديد بحلة قشيبة بعد أن قابلت لجنتها العلمية الكتاب علىٰ مصورة من أصل الربيع المرادي تلميذ الإمام الشافعي ، وعلىٰ نسخة مقابلة علىٰ ثلاث نسخ ، ومقابلة أيضاً علىٰ نسخة ابن جماعة ، وما خالف أصل الربيع . .جعلناه في النص باللون الأزرق طباعة ، وما نسب للإمام الشافعي مثل : ( قال الشافعي ، قال ، أخبرنا ) . .جعلناه باللون الأحمر ، ثم تم ترميم الكتاب حرفاً حرفاً ، حتىٰ غدا تحفة فنية فريدة ، يسر الناظرين .واعترافاً بالفضل لأهله ، فقد استفدنا مما قدمه العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله لطبعته ؛ بحيث تم وضع مقدماته أول الكتاب ، وأرقام الفقرات وضعت بالهامش مربوطة بنسخة الشيخ شاكر رحمه الله ، وكذلك الفهارس العلمية آخر الكتاب ، فغدا عقداً خالصاً علىٰ جيد الزمان .