لقد إعتاد الباحثون أن يؤرخوا لحركة الخوارج إبتداء من وقعة صفين، ثم يرون أن ظهورهم كان نتيجة" لقبول علي رضي الله عنه عبيداً التحكيم في أعقاب تلك الحرب. وعلى هذا الإعتقاد درج المؤرخون القدامى، وتابعهم في ذلك المحدثون. ولكن، لدى دراسة أخبار الخوارج في المصادر المختلفة، يظهر أن نشأة هذه الجماعة مازال يكتنفها الغموض، وتحيط بها الشبها...
قراءة الكل
لقد إعتاد الباحثون أن يؤرخوا لحركة الخوارج إبتداء من وقعة صفين، ثم يرون أن ظهورهم كان نتيجة" لقبول علي رضي الله عنه عبيداً التحكيم في أعقاب تلك الحرب. وعلى هذا الإعتقاد درج المؤرخون القدامى، وتابعهم في ذلك المحدثون. ولكن، لدى دراسة أخبار الخوارج في المصادر المختلفة، يظهر أن نشأة هذه الجماعة مازال يكتنفها الغموض، وتحيط بها الشبهات، وتغلفها نزعات بعض الرواة، ومن هنا فإن البحث عن بذور الخوارج الأولى يستوجب العودة الى عهود الإسلام التي سبقت ورافقت الصراع السياسي والعسكري بين عليّ ومعاوي، وذلك سعياً وراء الكشف عن العوامل المحيطية الفاعلة التي مهدت وأعانت على ظهورهم القوي المفاجئ! لأنه لا يعقل أن تنشأ فرقة بهذا الحجم الكبير، دون أن يسبق ذلك تنظيم دقيق وتخطيط مسبق. كما لا بد لهؤلاء الناس من مبادئ يلتقون حولها، أو مصالح مشتركة يضحون من أجلها، إستهوتهم، في بادئ الأمر، فجمعتهم على صعيد واحد لتحقيقها. هذا وقد كان بروز الخوارج على أشدّه في العصر الأموي.وكان النشاط الحربي هو السمة الغالبة على تحركاتهم طوال ذاك العصر. فعرفوا رجال حرب وقتال، ولم يُعهدوا أصحاب فكر وفلسفة. ولعّل إنشغال زعمائهم وقادة الرأي عندهم بالخروج والجهاد، قد حال دون إأكمال نظرهم في مسائل الفكر المجرد والمنطق العاقل، فغلبت السطحية على أفكارهم التي ظلت في إطار الشعارات الدينية، التي تستثير العاطفة وتحرك الوجدان. ولكنهم، في بعض الأحيان، كانوا إذا ما تلاحقت هزائمهم العسكرية، يخلدون الى السكينة والهدوء، بدلاً من إلقاء أنفسهم في ثورات دموية خاسرة. وحينذاك ينصرفون الى دراسة الإسلام، ويكتبون في العقائد والفقه، فظهر منهم الفقهاء والعلماء. وقد يكون من العسير على الباحث تحديد زمن نتاجهم الفكري، وإن كان يغلب على الظن أنه وليد مرحلة متقدمة من العصر الأموي، وأن بعضه كان وليد أواخر هذا العهد وأوائل العصر العباسي. فالمباحث الكلامية التي ورد طرف منها فيما تسرب من عقائدهم، هي حصيلة تلاقح الفكرين اليوناني والإسلامي حين نشطت حركة الترجمة والتعريب.أما فيما يخص تكون الفرق الخارجية، فإنه وبإستثناء أمهات الفرق عندهم، ليس هناك ما يذكر عن تاريخ ظهور الفرق الصغيرة الأخرى أو زمن إندثارها. هذا وقد عرفت الخوارج بألقاب عديدة قبل أن يعصف بها التفرق والتمزق الى جماعات تناصب بعضها العداء والتكفير. ولعل أشهر الألقاب التي عرفوا بها: الحرورية، المحكّمة الحارقة، الخوارج وهو أشهر إسم عرف به هؤلاء الناس حتى صار علماً مميزاً لهم عن غيرهم من الفرق الإسلامية. ولعلّ شيوعه وطغيانه على الأسماء الأخرى، قد جاء من إتفاق الجميع على إستعماله وإشاعته.هذا ومهما يكن من أمر فإن الباحث في موضوع الخوارج يظهر له حلياً أن دراسة هذه الحركة ليست من الأمور السهلة حيث أن موضوع الخوارج لم يحظ بإهتمام الباحثين المحدثين بالقدر الذي يستحقه، إذ لم يفرد لهؤلاء القوم أي بحث علمي متكامل. من هنا تأتي أهمية هذا البحث الذي جاء بمثابة رسالة جامعية لنيل الدكتوراة. وقد سعى الباحث جاهداً الى أن تكون دراسته هذه عملاً متكاملاً. إذ هو تناول جماعة الخوارج، نشأة وتاريخاً وعقيدة وأدباً في إطار العصر الأموي ليس غير محاولاً الإحاطة الى حدّ ما بأمر هذه الجماعة في تلك الحقبة المهمة من تاريخهم.