يضم الأثر الشعري الذي أضعه بين يدي القارئ في هذا الكتاب ثلاث صور شعرية لقصيدة واحدة، أولها قد نظم بين سنة 1945 و1946، وثانيها قد نظم سنة 1950 وثالثها متأخر التاريخ حتى 1965.أما القصيدة الأولى فقد نظمتها عام 1945 -وكان عمري إذ ذاك اثنين وعشرين عاماً- ولم يكن ديواني الأول (عاشقة الليل) قد ظهر إلى الوجود أو طبع. وكنت إذ ذاك أكثر من...
قراءة الكل
يضم الأثر الشعري الذي أضعه بين يدي القارئ في هذا الكتاب ثلاث صور شعرية لقصيدة واحدة، أولها قد نظم بين سنة 1945 و1946، وثانيها قد نظم سنة 1950 وثالثها متأخر التاريخ حتى 1965.أما القصيدة الأولى فقد نظمتها عام 1945 -وكان عمري إذ ذاك اثنين وعشرين عاماً- ولم يكن ديواني الأول (عاشقة الليل) قد ظهر إلى الوجود أو طبع. وكنت إذ ذاك أكثر من قراءة الشعر الإنكليزي فأعجبت بالمطولات الشعرية التي نظمها الشعراء وأحببت أن يكون لنا في الوطن العربي مطولات مثلهم. وسرعان ما بدأت قصيدتي وسميتها: "مأساة الحياة" وهو عنوان يدل على تشاؤمي المطلق وشعوري بأن الحياة كلها ألم وإبهام وتعقيد. وقد اتخذت للقصيدة شعاراً يكشف عن فلسفتي فيها هو هذه الكلمات للفيلسوف الألماني المتشائم "شوبنهاور": (لست أدري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت. لست أدري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت. لست أدري لماذا نخدع أنفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء؟ ختام نصبر على هذا الألم الذي لا ينتهي؟ متى نتدرع بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حب الحياة أكذوبة وأن أعظم نعيم للناس جميعاً هو الموت؟)، والواقع أن تشاؤمي قد فاق تشاؤم شوبنهاور نفسه، لأنه -كما يبدو- كان يعتقد أن الموت نعيم لأنه يختم عذاب الإنسان. أما أنا فلم تكن عندي كارثة أقسى من الموت. كان الموت يلوح لي مأساة الحياة الكبرى، وذلك هو الشعور الذي حملته من أقصى أقاصي صباي إلى سن متأخرة.وهكذا بدأت نظم المطولة، وقد اخترت لها بحراً عروضياً مرناً هو البحر الخفيف الذي يجري بين يدي الشاعر كما يجري نهر عريض في أرض منبسطة. وقد بلغت القصيدة ألفاً ومائتي بيت نظمتها في ستة أشهر تقريباً وانتهيت منها عام 1946 وكان موضوعها فلسفياً يدور حول الموت والحياة وما وراءهما من أسرار. وقد تخلل القصيدة جزء منها شكوت فيه من المآسي التي سببتها الحرب العالمية الثانية التي كانت تستعر في الغرب ودعوت إلى السلام وتغنيت به وتددت بتجار الحروب وقاتلي البشر. ثم انتقلت إلى الحديث عن السعادة متسائلة إن كان لها وجود حقفي الدنيا، ثم رحلت أبحث عنها في مختلف الأوساط فلا أجدها، بحثت أولاً لدى الأغنياء لعل السعادة في قصورهم وحياتهم المترفة الناعمة، ولكني لم أجدها لأن الغني لا يستطيع أن يدفع وحشة القبر والأكفان بأمواله. ثم مررت بالرهبان والزاهدين فوجدت عواطفهم المكبوتة تقلقل حياتهم ومضض الحركان يظلل مساكنهم ويبدو على وجوههم. ثم قلت لعل السعادة في ارتكاب الشرور والآثام فطفت بأوكار اللصوص والأوباش والمجرمين، فوجدت أن ضمائرهم تعذبهم ولا تأذن لهم أن يرتاحوا. ووصلت إلى الريف بأشجاره وامتدادته الجميلة فوجدت سكانه فقراء محرومين يعيشون عيشة البؤس والعذاب. وصورت في هذا القسم من المطولة، راعياً صغيراً يأكله الذئب ثم وصفت الثلوج التي تهبط طوال الشتاء وتحرم الفلاحين من استنبات الأرض فينتشر الجوع والحزن بينهم وتموت مواشيهم. ومن الريف انتقلت إلى دنيا الشعراء لعل السعادة عندهم، ولكن بارقة الأمل سرعان ما تخبو بسبب حساسية الشاعر وتألمه للجياع والمحزونين والمحرومين. ثم انتقل إلى العشاق لعلهم ذاقوا السعادة، فلا أجد بينهم من يعرفها لأن الشهوة الجنيسة تدنس الروح وتحد آفاق الفكر. وهكذا تنتهي الرحلة بالخيبة فلا تجد الشاعرة السعادة مطلقاً.ولقد كانت "مأساة الحياة" صورة واضحة من اتجاهات الرومانسية التي غلبتني في سن العشرين وما تلته من سنوات. وكانت من مشاعري إذ ذاك التشاؤم والخوف من الموت وهما مفتاح هذه الصورة لأولى من المطولة: صورة 1945.وكنت في عام 1946 أنوي أن أقدم المطولة للقراء بعد مجموعتي الشعرية الأولى "عاشقة الليل". وعندما طبع هذا الديوان كان في آخره إعلان صغير عن "مأساة الحياة" ولكن الظروف حالت دون ذلك. فأصدرت مجموعتي الشعرية الثانية "شظايا ورماد" عام 1949 وهي المجموعة التي دعوت فيها إلى الشعر الحر.وفي عام 1950 كان أسلوبي الشعري قد تطور تطوراً كبيراً عما كان أيام نظمي للمطولة، فأصبحت مواردي الأدبية أغرز، وأسلوبي أكثر صوراً وثقافتي أغنى. فلم أعد راضية عن "مأساة الحياة) ولذلك قررت أن أعيد نظمها بأسلوبي الجديد فكانت صورتها الثانية. وعندما مضيت في نظمها لاحظت أنها -رغم وحدة الموضوع- قد أصبحت قصيدة ثانية تختلف في كل لفظة منها عن (مأساة الحياة) فرأيت أن أهبها عنواناً جديداً فيه مسحة من تفاؤل ووضوح بحيث لا أحتمل أن أستبقي العنوان القديم ولذلك سميتها "أغنية للإنسان". وقد مضيت في نظمها حتى بلغت أبياتها 586 بيتاً من الوزن الخفيف نفسه. وعند هذا بدأت أشعر بالضيق، فقد لاحظت أنني مقيدة بالنسخة الأولى ما دمت أعيد نظمها فليس في وسعي أن أخرج عن الإطار العام للقصيدة الأولى. وكان علي في "أغنية للإنسان" أن أبحث عن السعادة فلا أعثر عليها. بينما كنت قد بدأت أدرك أن السعادة ممكنة ولو إلى مدى محدود، فكيف أوفق بين الموضوع القديم وآرائي الجديدة؟واستعصى علي الحل وقلت لنفسي أنني لا أستطيع مواصلة القصيدة ولا بد لي من تركها. وكان ذلك، إذ توقفت عن النظم وتركت القصيدتين خمسة عشر عاماً من 1950 إلى 1965 وقد كنت خلال هذه السنوات أشعر بالضيق كلما تذكرتها لأن "مأساة الحياة كانت أجمل شعري في مرحلتي الأولى، مرحلة "عاشقة الليل" وكانت نسخة 1950 أجمل شعري في مرحلتي الثانية. ولذلك عز علي أن تبقى محجوبة عن القراءة. وراح الدكتور عبد الهادي محبوبه (زوجي) يحثني على إتمامها، وفكرت في ذلك فعلاً. ولكني لاحظت أن أسلوبي الشعري قد تطور وتغير ما بين 1950 و1965 فلو أتممت (أغنية للإنسان) لظهر عليها فارق الأسلوب. وبقيت حائرة ماذا أصنع، ثم قررن أن أنشر (مأساة الحياة) كما هي دون تعديل. وجلست ذات صباح أنسخها معدلة كلمة هنا وشطراً هناك دون أن أعيد نظمها كما صنعت سنة 1950.ولكني ما كدت أمضي صفحات حتى بدأت التغييرات تتسع وتشمل كثيراً من الأبيات، وبعد يومين وجدتني أغير القصيدة القديمة تغييراً كاملاً دون أن أستبقي من المطولة الأولى لفظة واحدة. وهكذا ولدت الصورة الثالثة من القصيدة عام 1965. ولسوف يلوح للقارئ أنني أقرب إلى التفاؤل في هذه القصيدة. والواقع أن آرائي المتشائمة كانت قد زالت جميعاً وحل محلها الإيمان بالله والاطمئنان إلى الحياة، ولذلك راح جو مأساة الحياة يتبدد تدريجياً، وقررت أن تجد الشاعرة السعادة في هذه القصيدة. وعندما بلغت ستمائة بين أو يزيد شغلتني الحياة بأعمال وظروف معقدة فاضطررت إلى ترك المطولة والانصراف إلى مشاغلي. ومنذ ذلك لم أعد إلى المطولة.واليوم إذ أقدم الصور الثلاثة إلى المطبعة، أحس أنني أقدم عملاً أدبياً متكاملاً، لأن الشعر قد يقرأ لمجرد كونه شعراً، وهذه المطولة بصورها الثلاث تدل على خط التطور في شعري ما بين السنوات العشرين من 1945 إلى 1965.