"حولي غمامة تمنع عني الرؤية. كأني محتجزة داخل غشاء مصليّ كالذي تكونت فيه جنيناً في بطن أمي. بدا الليل الحالك يغمر ذاكرتي ويطوّق صدري حتى صار بين العالم وبيني جدار واقف على حدود مغيبي. ظلّي ابتعد عني. هذا الظل الذي كان يتمدد في ويطول بقدر ما كانت بطلة المسرحية تزدهر فيّ وتورف، فيغدو روحها الهائمة خارج وعائي، يستدل عليها على إيقاع...
قراءة الكل
"حولي غمامة تمنع عني الرؤية. كأني محتجزة داخل غشاء مصليّ كالذي تكونت فيه جنيناً في بطن أمي. بدا الليل الحالك يغمر ذاكرتي ويطوّق صدري حتى صار بين العالم وبيني جدار واقف على حدود مغيبي. ظلّي ابتعد عني. هذا الظل الذي كان يتمدد في ويطول بقدر ما كانت بطلة المسرحية تزدهر فيّ وتورف، فيغدو روحها الهائمة خارج وعائي، يستدل عليها على إيقاع صوتي واشتعالي في موقد قدرها. امرأة من أسطورة وواقع، من جبلة واحدة بين ممثلة وخيال. مع كل شخصية جديدة كان يلازمني شعور فريد بأني هي تلك المستبدة بذاكرتي، بلساني، نبرة صوتي، بملابسي أتقمصها حتى نكران ذاتي. فلعبة الأدوار كانت تحررني من أحاسيسي الخاصة، لتؤكد اندماجي بها، شبحاً استولى على حميماتي فارضاً عليّ غريزته وجنونه، فاستسلمت لمشيئته، معتزة به، راضية أن أكون هو، أمنحه جسداً ليستأنس وصوتاً يحمله خارج النصوص فنتبادل ما عندنا. قطبان بينهما سائل حيوي يذيب ثلج الواحد في نار الآخر. المسرح منحني روحاً أرحب من مضيق حياتي، أغذي بها أحلامي. على مدار الأيام تنقلت بين أليكترا وفيدر، وهيلين طروادة وهيرميون ومجنونة شاير وفيرجينيا وولف. نساء سكبن مصائرهن في وعائي، المفصل على مزاجهن، فسيحاً لاتساعهن. كنت مدركة آنذاك، وخزان ذاكرتي لا ينضب، أن في كل دور تكريساً لـ"أنا جديدة" تطلب مني تجنيداً مطلقاً له. كأنّ ألف سنة عبرت وأنا في عزلتي، يربطني بذكرايات المسرح صرير الزيمان المعششة في أشجار الحديقة، في غنائها الرتيب حزن العالم. إنها الخيط الرفيع الذي ما زال يشحذ لي ومضات من ذلك المكان الذي حررنا فيه جنوننا وولعنا وفككنا عقد النفس وتجرأنا على الحب المميت الحب المحييي. ذاكرة المسرح ظلت مشتعلة فيّ أمام موقد أيامي البارد، المرمّدة فيه أكواز الصنوبر التي كانت قبل أشهر ترشقني بعطورها الصمغية. رائحة القهوة المبهرة بالهال ترسخت في شمّي. هذه الحاسة التي ظلت دليلي إلى الخشبة، إلى الرفاق، إلى شريف ناضحاً بعرق "أوديب" إلى خلواتنا في المقهى المحاذي للمسرح، نستبدل كلمة بأخرى أكثر وقعاً وأبعد صدى في سمع الجمهور، يقودنا إليها الدخان المتعالي من الفناجين، والتفل الناقش على مجارها إشارات من وحي أمنياتنا وقلقنا على نجاح الليلة الأولى التي تضمن مسار المسرحية طوال الأسابيع التالية. عالم أتذكره من فجواتي الضبابية مشحوناً بالفتن والافتتان، بالكراهية والحب، بالثأر والغفران، لم يبق لي سواه. خارجه ظلال بلا أجساد، أفواه تتحرك بلا كلام، مرايا بلا طلاء أحدّق فيها ولا أراني".بين المسرح والحياة ينسج الممثل الحكاية على نول الخرافة الواقع. و"المشهد الأخير" هي قصص خمس منسوجة من وحي الحكايا الذاتية لخمسة ممثلين على أجسادهم وشم الشخصيات التي تقمصوها، وندوبها، وفي نفوسهم جراح الوجود التي لا تندمل. وأبطال هذه الحكايا ليسوا واقعيين تماماً، ولا هم تماماً من صنع الخيال.