لم أتذكر قبل المغيب أن أحمل معي كل الهواجس التي سكنتنا هناك، حيثما احتفلت معنا الشمس، وكانت وقعاً طرياً لأعراسنا، وبصيصاً حزبياً يذرف الدمع لأحزاننا. كان يجب ان أملأ بها أحداقي، لقد هربت الشمس. يتصاعد خفقان القلب لرحيلها. يدق صدري كقصف عشوائي. والمرارة ترتد نحو الحلق كقذيفة قاتلة. لم أتذكر ان أسرق من سطح البيت كل النظرات الطفولي...
قراءة الكل
لم أتذكر قبل المغيب أن أحمل معي كل الهواجس التي سكنتنا هناك، حيثما احتفلت معنا الشمس، وكانت وقعاً طرياً لأعراسنا، وبصيصاً حزبياً يذرف الدمع لأحزاننا. كان يجب ان أملأ بها أحداقي، لقد هربت الشمس. يتصاعد خفقان القلب لرحيلها. يدق صدري كقصف عشوائي. والمرارة ترتد نحو الحلق كقذيفة قاتلة. لم أتذكر ان أسرق من سطح البيت كل النظرات الطفولية التي داعبها الهواء يوماً. كأنما المكان لا يكبر، يظل طفلاً مهما كبرت، تراكم بالأجيال، طابعاً يعلو السطح القديم، وينبت أحلاماً لطفل جديد. الكلام بحجم الركام. في لحظة مشتهاة، لازدحام الموت نعتصر الحصار، كي ينزف الوقت، ساعات أكثر. وما تبقى لنا من الحياة. منازل الحيّ العتيق، استقالت منه جموح الناس المحشورة في علب محكمة بأغلفة العتمة، تحتجز الحلم داخله مثل كنز نادر أو خمر عتيق. هنا أبواب مشرعة، ألقت كل أحشائها وجثت على ركبها، بشكل كومة من الركام، امتطت ظهر الرواق، فصارت جسراً لعبور الزقاق الضيق. حيّ يحتشد بالأقبية المغلقة، ضاق على الموت، فلا يخرج الميت من باب البيت إلى الزواريب إلا وقوفاً. نذهب للموت وقوفاً. كم سخرت من جثة تسير حتى تدفن. ها هي الحيطان، توزع أحجارها على الشاطئ والبحر يلقي بتنهيدة حزينة وبصوت أجش. سراديب الحي العتيق، تؤدي صلاتها تحت جنون النار، والحيطان سقطت خشوعاً على سجادة عتيقة وسط البيت، صوت طفولي، كرقة الماء ينساب من بعيد. فاقتحم خيالي المطارد من فرع القنابل واخترق أذني المصليّة بأزيز الرصاص، مشهد طفل رأيته مرة على ظهر سفينة عملاقة، يصرخ بأعلى صوته. يختلط لحن الناي مع محرك وصوت طفل.وكأن حاسّة الروائي الهاربة تتجمع على بعضها نتطاول تتنامى وتكبر لتكبر وتكبر وتصير ذاك النهر من الأحاسيس الذي تشكل ليسكنه، فيؤرق ذكرياته التي تظل ناشطة إلى ما لا نهاية. إنها ذكريات ذاك الفتى الفلسطيني الذي يحتضن ذكرى ذاك الحي في ذاك الزمن زمن الأوطان. متحسساً "أحاديث دارت على شفاه التاريخ يطعم الحكايات، وهو يدور على الربع ذات مساء وذات وطن" ينام مستيقظاً علّه يقبض على أحلامه الهاربة ومتسائلاً "لماذا تهرب الأحلام؟" هي تهرب كما يجري خلفها ملقياً القبض عليها، كأنها حاسة تتفاعل داخله، كانطباعات تصاعدية نحو أمل منشود. حسة من عشق أبدي لوطن. "تحن لمنقار هدهد، يحملها إلى مرساة الروح في عشٍّ فضيٍّ جديد".هكذا يمضي الروائي في سردياته المفعمة بعبارات مفعمة بالشفافية شفافية فلسطيني مفعم بمشاعر الاستشهاد في سبيل وطن حلم أراده واقعاً.أما المرأة التي مازالت تجلس في أعلى الجبل وتراقب احتراق الحي كل مساء... يعيش في قلبها سرير من طراز آخر. سرير يرقد فيه كوكب الروح، ويختفي في سر الشوق البعيد وبرج الهوى القديم. أفادت جارتي عن أخبار سريرها انه قد زحف من غرفة نومها! قالت "سحبه النمل" وبكت. لم تجد حذاء على عتبة الباب ولا بقايا ملابس على علاّقة ثياب ولا حتى علبة المكياج. السرير المحترق بدا كهيكل عظمي أكلت النار فيه كل شيء وبقيت خيوطه الحديديه ترسم مكان النوم على وسادة الرماد.الجدران أصابها الجدري فسقطت قشرتها وتدلت من السقف، خزانه نصفها محترق والنصف الآخر فارغه من طرحة العرس وحتى الملابس الداخليه وقمصان النوم. كل فرد يبحث عن شيء يعنيه، فتاة جامعيه تبحث عن كتبها، شاب يحترق على مذكراته، طفلة فرحة بان وجدت في المكان المختنق بالروائح الكريهه، دراجتها الهوائيه، سليمة من أي سوء، غير آبهة من دمعات أمها التي سألتني مذهولة:- ما دخل المكياج بالحرب؟لم تفهم كلامي بقولي:- انها حرب مساحيق وأقنعه.