نبذة النيل والفرات:هذا وقت تبدلت فيه المفاهيم وتغيرت المعايير عما كانت عيه ن قبل إذ ما كان معروفاً بالسوء قد انتشر حتى كاد يعم، فاعتادت العيون على رؤيته، وألفت النفوس السماع عنه، وقل نقده، ولم تعد تشمئز منه القلوب، ولم يبق أمراً مستغراباً بل غدا مألوفاً.وكثرت المغالطات فما كان معروفاً من الأفكار أصبح يذاع ما يغايرها، ويشاع ما يب...
قراءة الكل
نبذة النيل والفرات:هذا وقت تبدلت فيه المفاهيم وتغيرت المعايير عما كانت عيه ن قبل إذ ما كان معروفاً بالسوء قد انتشر حتى كاد يعم، فاعتادت العيون على رؤيته، وألفت النفوس السماع عنه، وقل نقده، ولم تعد تشمئز منه القلوب، ولم يبق أمراً مستغراباً بل غدا مألوفاً.وكثرت المغالطات فما كان معروفاً من الأفكار أصبح يذاع ما يغايرها، ويشاع ما يباينها، ويسجل ما يختلف عنها تماماً، فوقع الناس في حيرة واستعصى على الإفهام معرفة الحقائق إذا غدا الصدق اتهاماً، والكذب شهامة، والإخلاص إثارة، والعمالة شطارة، والتميز بالشخصية (تياسة)، والنفاق كياسة، والتلون سياسية.وليس الناس أقنعة فلم يعد المرء يعرفهم على حقيقتهم، ولم يستطع تبين هويتهم، ولا أن يميز حط سيرهم فسائق السيارة يعطي إشارة لا تجاهه نحو الشمال وإذا به ينحرف نحو اليمين، والسياسي يعلم أنه يسير على خطا الشرق، ويشيع أنه يمشي في كب المعسكر (الفلاني) وينطلق في تياره، ولا ينفك يلقي بالتصريح إثر التصريح على أنه ماض في الدرب الذي يسلكه حتى يقال إنه قد ارتمى في أحضان ذلك الموكب، وقد شاع هذا وعرف حتى أصبح شبه حقيقة، فهو يقول ذلك ويؤكد، ولا يمكن للعامة أن تصدق غير هذا.وعندما يكشف القناع عند أزمة أو وقت تنفيذ مخطط تظهر الحقيقة، ويعرف مكان الارتباط الصحيح. فلما كان هناك معسكرات كان يهتم الغربي منهما بالتضليل، وبمعرفة الأعوام المخلصين، وكشف الأعداء، ويكتفي الشرقي منهما بكسب الدعاية لنفسه بين العامة، وترويج بضاعته، ومعرفة جواسيس خصومه.. وكانت كلما كشفت خبايا راع شده الناس لما حدث فزاد ذلك من حيرتهم، وارتبك وضع الرجال لكثرة ما حدث، وقد لا تكشف لعبة إلا بعد موت صاحبها.ودخلت النساء لعبة لباس الأقنعة إذ تنكرت، وزجت بأعمال التجسس، فكشفت أسراراً، وأظهرت خفايا.وسار رجال ورعاة تحت مظلات غريبة وهم في أقنعتهم، وربما طال بهم السير، وجرى بهم الوقت حتى حمل المظلة أبناء وأحفاد، وقد يستغرق بهم الزمن أكثر من ذلك، وقد يتعدى بهم الخط إلى اتخاذ مظلة العقيدة، لقد استظل رجال بالإسلام، وهم ليسوا من أهله، وأبدوا تمسكهم به، والدعوة له، وربما انتظموا في عقد حركاته، وأدوا دورهم بالهدم من الداخل، والناس في غفلة من أمرهم، يتوقفون عند بعض الأحداث، ويشكون أثناء الأزمات، ولكن يخرج من الأمة من يبرر لهم تلك المواقف، ويفسر بعض الأحداث بالمغالطات، ويبرز من العلماء من يحسن لهم سوء عمليهم لتهدأ الرعية، فتوزعت الآراء في الأمة، وتشتت أفكار الرعية، وخيمت عتمة، وكاد اليأس يقضي على بعض النفوس.وهبت عواصف في أخطر قضية للمسلمين وتلك قضية بيت المقدس من الشام فعصفت بالمظلات، وأطاحت بالأقنعة، ومزقت الأستار، وبدا كل على حقيقته، وظهر على واقعه، وظهر بعضهم أنه من الخصوم، ومن أهل عقيدتهم، يعمل لهم، مرتدياً ثيابنا، ويسير تحت مظلة عقيدتنا، يبدي التمسك بها، وهو عدو لها، ونتيجة قدرة بعضهم على التستر، وبراعتهم بأداء الدول أعطوا الرعاية على أكثر الأقاليم حساسية حتى حان القطاف، وقبل نهاية المطاف وإنهاء التمثيلية رغب المخرجون نهاية بعضهم قبل كشف الأوراق ليبقى كل شيء مكتوماً خوفاً من رد الفعل ودب الحياة من جديد في جسم الأمة، ولكن الله غالب على أمره.وقد جنحت السفينة بعدد من الفضائل عن خطها السليم، ومسارها الصحيح، وسارت بها إلى طريق أخرى وألبستها ثوباً جديداً، ورجعت بها على أنها رذائل. أما الرذائل حقيقة فقد صورتها بحلة قشيبة وسمتها أخلاقاً ومكارم. وعلينا أن نسير مع رحلة الجنوح بالأخلاق لنتعرف على ما جرى لها أثناء حركة التاريخ وتلك الرحلة.والكتاب الذي بين يدينا يسعى لفرض مراحل تلك الرحلة، محاولاً إعطاء صورة صادقة عن ذلك الجنوح.