كتابه التاريخ حرفة.. إنها اختصاص المؤرخين، متواصلة كانت أم متقطعة، كما أنها تبقى دائماً فعل تدقيق وبحثاً في الوقائع، من أجل التفريق بين الغث والثمين، وصولاً الى رواية أمينة لما كان قد تحقق. إن رواية صنّاع التاريخ قيمة لا غنى عنها لكنها مهما علا شأنها تبقى في النهاية شهادة شاهد على عصره، وهذا ما ينطبق تماماً على ما جرى في لقاء أح...
قراءة الكل
كتابه التاريخ حرفة.. إنها اختصاص المؤرخين، متواصلة كانت أم متقطعة، كما أنها تبقى دائماً فعل تدقيق وبحثاً في الوقائع، من أجل التفريق بين الغث والثمين، وصولاً الى رواية أمينة لما كان قد تحقق. إن رواية صنّاع التاريخ قيمة لا غنى عنها لكنها مهما علا شأنها تبقى في النهاية شهادة شاهد على عصره، وهذا ما ينطبق تماماً على ما جرى في لقاء أحمد بن بيلا الرئيس الأول للجزائر بعد استقلالها وبين أحمد منصور من خلال برنامجه "شاهد على العصر" الذي بثّته قناة "الجزيرة" الفضائية. وقد كان لهذا الحوار أهميته إذ كانت له أصداءه الإيجابية لدى المشاهدين في الجزائر والمغرب العربي، بل لدى العرب والمسلمين الذين تابعوه إجمالاً، وهذا يعود في المقام الأول الى أنه بمقدار ما كانت رواية الوقائع، من قبل شخصية نضالية جزائرية هامة، تكشف عن حقائق نضال الشعب الجزائري وانتصاره على الإستعمار، فإنها في الوقت نفسه كانت تكشف النقاب عن الدور الثابت والدؤوب لمنطلق أساسي في الثورة الجزائرية هو الإسلام. هذا ما كشف عنه الشاهد على هذه الثورة إذ يقول بأن الإسلام كان الداعم للنضال الجزائري على المستوى الشعبي على مدى 132 عاماً من الإستعمار ويحسب شهادة مؤرخين فرنسيين؛ فإن القمع الإستعماري للإنتفاضات المتكررة في تاريخ الجزائر النضالي قد أودى بحياة سبعة ملايين ونصف المليون جزائري على طريق الحرية. ويقول بن بيلا أنه ومنذ عشر سنوات كتب في بحث له عن "الإسلام والثورات الجزائرية" ما يلي: "في وجه القوة البربرية العمياء، كان شعبنا ينكفئ أحياناً مضطراً أمام آلة الموت المتقدمة التي يواجهها وكانت المعنويات وهي في قمة توترها بحاجة الى وقفة محارب حتى لا تنهار تحت ضغوط القوة الناشئة، ولكن هذا الشعب سرعان ما يستجيب للنداء المنبعث من أعماقه فيهب من جديد مواجهاً قدره، منصاعاً من أجل انتزاع حقه بالعيش حرّاً." ومتابعاً يقول "كان الإسلام هو حبل الوريد الذي يمده بالعزم كي ينتفض في كل مرة، انه التربة الخصبة التي تضرب فيها عميقاً جذورنا، وتظهر برّاقة من خلالها دخائلنا، إنه ملاذنا الآمن، إليه نتوجه وقت الشدة، وفي رحابه نلتقط أنفاسنا لنعاود انطلاقنا نحو المعركة من جديد". تلك الرؤية يستشفّها القارئ من خلال متابعته لشهادة بن بيلا على المسيرة النضالية التي سارها الشعب الجزائري على كل مستوياته. يكشف الشاهد عن وقائع واكبت الحرب الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي. وقد توزعت تلك الشهادة على محاور عدة. تم في الأول منها الحديث عن نشأة بن بيلا في بيئة دينية أسهمت في تشكيل وعيه الديني الى جانب وعيه الوطني من خلال قوى سياسية في سندات الثلاثينات من القرن الماضي. ويتناول المحور الثاني شهادة "بن بيك" حول المذابح التي ارتكبها الفرنسيون في الجزائر في العام 1945 والتي قتل فيها خمسة وأربعون ألف جزائري، والآثار التي تركتها على نفسه ودورها في استنهاض همم الجزائريين ليصار من ثم الى تأسيس المنظمة السرية العسكرية لحزب الشعب في العام 1946، ودار المحور الثالث حول هروب بن بيلا من السجن الذي أودع فيه لدوره النضالي، ومن ثم تعرفه على الرئيس جمال عبد الناصر وذلك في العام 1953 حيث قامت بينهما صلة وثيقة أدت الى قناعة عبد الناصر بفكرة قيام الثورة الجزائرية ودعمها بالسلاح مما مهّد لاندلاع الثورة في الأول من نوفمبر عام 1945. وهكذا اندلعت شرارة تلك الثورة التي يروي أحمد بن بيلا تاريخها وما يرافقها من أحداث محلية ودولية بصفته أحد أوائل مناضليها ليتابع من ثم تلك المسيرة مفصلة كاشفاً عن أسرارها ويقدمها للقارئ كشهادة من شاهد على ذاك العصر.