العولمة، هي القضية التي كثر الحديث عنها-فجأة-ليس على المستوى الأكاديمي، وإنما أيضاً على المستوى أجهزة الإعلام والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، ولا نعدو الحقيقة إذ قلنا: إن هناك سيلاً أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن الموضوع، ولم يعد الأمر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين، وعلماء السياسة أو المهتمين بالشؤون العالمية، بل ...
قراءة الكل
العولمة، هي القضية التي كثر الحديث عنها-فجأة-ليس على المستوى الأكاديمي، وإنما أيضاً على المستوى أجهزة الإعلام والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، ولا نعدو الحقيقة إذ قلنا: إن هناك سيلاً أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن الموضوع، ولم يعد الأمر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين، وعلماء السياسة أو المهتمين بالشؤون العالمية، بل تعدى الأمر ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة والإعلاميين والفنانين وعلماء البيئة والطبيعة.العولمة في مفهومها العام كما تدل الصياغة اللغوية ذات مضمون ديناميكي، يشير إلى عملية مستمرة في التحول والتغيير، فعندما نقول عولمة النظام الاقتصادي أو عولمة النظم السياسة، فإن ذلك يعني تحول كل منها من الإطار القومي ليندمج ويتكامل مع النظم الأخرى في إطار عالمي، لذلك ينظر إلى العولمة في مفهومها العام على أنها اتجاه متناغم يصبح معه العالم دائرة اجتماعية سياسية واقتصادية وثقافية تتلاشى في داخلها الحدود بين الدول، لذلك يمكن تعريف العولمة بأنها: التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداء يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو الانتماء إلى وطن محدد أو إلى دولة تعينه، في حين أن هناك مفهوم للعولمة يركز أنها: مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ المواطن في وطنيته وقوميته وانتمائه الديني الافجتماعي والسياسي. علماء التاريخ يقولون: إن العولمة الغربية ليس ظاهرة جديدة بل أن بداياتها الأولى بدأت مع بدء عملية الاستثمار الغربي لآسيا وأفريقيا والأمريكتين ثم اقترنت بالتطور التجاري الحديث لأوربا، الأمر الذي أدى إلى نظام عالمي متشابك ومعقد ينادي ويروج له العديد من المفكرين والعلماء والفلاسفة، فلا غرابة في مساهمات هؤلاء العلماء والمفكرين من اقتصاديين وسياسين وفلاسفة، لأن قضية العولمة لها من الجوانب والزوايا الكثيرة ما يثير اهتمام كل هؤلاء خاصة وأن كل كاتب عادة ما يركز تحليله على جانب معين من العولمة مثل الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي وغيره، لذا يوجد الآن ما يشبه التخصص في تناول العولمة، ومن النادر أن نجد كاتباً أو مرجعاً يتناولها من جوانبها الفقهية، ثم يتطرق إلى الجوانب الأخرى دون أن يكون على حساب المستوى العلمي، أو العمق بالتحليل، بيد أن كتاب "فقه العولمة" للإمام محسن الشيرازي يجئ استثناء في هذا المجال، لأن سماحته استطاع بموضوعية أن يحيط بقضية العولمة من جوانبها المختلفة، من خلال رؤية عميقة ثاقبة وموسوعية واعية وإسلامية متحضرة ذات نزعة إنسانية.وما سيلاحظ القارئ عند مطالعته لهذا الكتاب القيم هو ارشاد الامام الشيرازي إلى مجوعة من الطروحات المهمة التي تستحق التأمل والتفكير لفهم قضية العولمة من منظور إسلامي حضاري متطور يختلف عن المنظور الزائف الذي غالباً ما تطرقه وسائل الإعلام المختلفة. وأول هذه الطروحات هو أن العولمة الصحيحة هدف إنساني لا غنى عنه إلا بنشره وتعميمه، ولا طريق للإنسانية أمامها إلا بالدخول فيها والانتماء إليها، علماً بأنه لم يكن الدخول فيها قد بدأ في هذه الأيام، بل كان مع بداية إرسال الأنبياء أولي العزم عليهم السلام وأخذت تتبلور وتتكامل منذ بدأ عهد الرسالة الإسلامية، فإن الدين الإسلامي الحنيف أول من جاء بأسس العولمة الصحيحة وبّلغ لها ودعا اليها.من الطروحات القيمة التي عرض الإمام الشيرازي في كتابه أيضاً والتي تدل على عبقرية سماحته ودقة فهمه وتحليله للأوضاع التي ساءت العالم هو أنه مع نمو العولمة يزداد تركيز الثروة وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعاً رهيباً لا مثيل له، هذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية وبعد أن يفصّل سماحته الكلام حول هذا النوع من العولمة، فقد حسم الجدل بين الباحثين والمفكرين بتحليله الدقيق لهذه الظاهرة.ويرى سماحته على جانب كبير من الأهمية، ولها علاقة وثيقة بالعولمة الغربية والتي تكشف حقائق يتغافل عن إثارتها الكثير الباحثين الغربيين وأهل السياسة ألا وهي قضية النمو المطرد للبطالة، وما يرتبط بها من تقليص في قدرة المستهلكين واتساع دائرة المحرومين، فتحت تأثير الركض المحموم وراء الأرباح المرتفعة التي أصبحت تتحقق في الأسواق النقدية والمالية للبعض فقط، راحت القطاعات تتنافس من أجل خفض كلفة الإنتاج، كان التنافس ضارباً على نصر العمل للوصول إلى مسألة الأجور إلى أدنى مستوى ممكن.بالاضافة إلى هذه المسائل فقد تفرد الإمام ببحث قضية العلاقة بين الديمقراطية والسوق أهمية خاصة، وهي العلاقة التي يعتقد مروّجو قيم العولمة الغربية أن طرفيها متلازمان لا يفترقان، حيث يرون أن الديمقراطية تتطلب السوق، كما أن السوق يتطلب الديمقراطية، لكن الإمام يرى أن اقتصاد السوق والديمقراطية ليسا هما الركنين المتلازمين دوماً، واللذين يعملان بانسجام لزيادة الرفاه للجميع، وأن الأمر الأقرب للحقيقة والواقع في ظل نظام العولمة الغربية هو التعارض بين الديمقراطية لصالح البعض والسوق، ويستند في ذلك إلى خبرة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري الآن في مختلف بلاد العالم في ضوء السياسات الليبرالية الجديدة التي تستند عليها العولمة، فالديمقراطية التي يجري الدفاع عنها الآن هي تلك التي تدافع عن مصالح الأثرية والمتفوقين اقتصادياً، وتضر بالعمال والطبقة الوسطى.