ما بين طيات هذا الكتاب لآلئ وجواهر، ووصايا ومواعظ زواجر، فيها تنبيه للغافلين، وتذكير أهل الذنوب والآثام، وإيقاظهم من الغفلة والمنام، فكانت وصايا ومواعظ على لسان الأنبياء والمرسلين، ومواعظ الله عزّ وجل في سائر الكتب السماوية، وفي الحديث القدسي، وعلى لسان جبرائيل عليه السلام، تروق السامع، وتلذ بها المسامع، وتنشئ الخشوع، وترسل الدم...
قراءة الكل
ما بين طيات هذا الكتاب لآلئ وجواهر، ووصايا ومواعظ زواجر، فيها تنبيه للغافلين، وتذكير أهل الذنوب والآثام، وإيقاظهم من الغفلة والمنام، فكانت وصايا ومواعظ على لسان الأنبياء والمرسلين، ومواعظ الله عزّ وجل في سائر الكتب السماوية، وفي الحديث القدسي، وعلى لسان جبرائيل عليه السلام، تروق السامع، وتلذ بها المسامع، وتنشئ الخشوع، وترسل الدموع.هذه الآيات تمثل رحلة الكلمة في عالم الرسالة والبلاغ، وهي الكلمة التي قالها الله ولرسله، فكانت الموجهة للأنبياء من ورائهم العالمون، وكانت أبرع كلمة يمكن أن تقال للإنسان. ولو كرسنا كل معارف العارفين بالله في كلمة، فهل تطيق أن تشرح موقف الله من الإنسان كما يختاره الإنسان لنفسه، بأجمل وأوجز من هذا التعبير: "كن لي أكن لك؟". ولو لخصنا حنان كل ذي حنان في جملة فهل تكون بعض ما نستشفيه من حنان يكاد يُلْمس باليد، في هذه الجملة التي تمر على الخواطر أرقًّ من الحنان: "يابن آدم! إني أتقرب إليك بالعافية، وبستر على ذنوبك، وأنت تتبغض إليّ بالمعاصي، وعمارات كالدنيا، وخرابك الآخرة؟". ولو جمعنا عصارات أدمغة الفلاسفة كلها في عبارة، فهل يمكن أن تفسر مدى هيمنة القدر على الإنسان، بأصدق من هذه العبارة: "أجلك يضحك بأملك، وقضائي يضحك من حذرك، وتقديري يضحك من تدبيرك، وآخرتي تضحك من دنياك، وقسمتي تضحك من حرصك" أو هذه العبارة: "يابن آدم! تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد؟".وهل عرف الزهاد قولة تزهدهم في المغريات، دون إنكار لنوازعهم، بل تعتبر بها وبالمغريات معاً، ثم توجههم نحو الآخرة، أبسط وأعمق من هذه القولة: "أخِّر نومك إلى القبر، وفخرك إلى الميزان، وشهوتك إلى الجنة، وراحتك إلى الآخرة، ولذتك إلى الحور العين؟". أو هل تبرعمت المنابر عن كلام يأخذ بمجامع العقول والقلوب، إلى الورع والتقوى، أكثر رقة وشفقة مصدقاً من هذا الكلام الرحيم: "ارحموا أنفسكم، فإن الأبدان ضعيفة، والسفر بعيد، والحمل ثقيل، والصراط دقيق، والنار لظى؟". ومن عرف الدنيا مثل هذا التعريف الصادق العميق: "إن الدنيا، اليوم لك، وغداً لغيرك؟". وفي أي نظام اقتصادي وجد بيان يعيّن طبيعة المال، وهوية الأغنياء والفقراء، ثم يتحدث عن واجب كل من الجانبين إزاء الآخر، ولكن لا كما يتحدث المستجدي، ولا كما يتحدث القانون، بل كما تتحدث زوابع الرعود، في تتابع أصواتها، وقصر فواصلها وفصولها، فيقول: "المال مالي، والأغنياء وكلائي، والفقراء عيالي، فمن بخل على عيالي، أدخلته النار ولا أبالي"؛ وأين توجد حكمة صائبة تكون من قوة المعنى ورقة التعبير، ما للتيار من قوة ورقة، كهذه الحكمة الصائبة: "مثل العلم بلا عمل، كمثل الرعد بلا مطر... مثل القلوب القاسية، كمثل الحجر الثابت في الماء... ومثل الموعظة عند من لا يرغب فيها، كمثل المزمار عند أهل القبور..؟".هذه نماذج مما ضمه هذا الكتاب، الذي كله نموذج لنوع فخم من الكلام، لا يوجد له نموذج واحد في أي كتاب وأي كلام. والكتاب كله ممتع وكله فريد، لأنه يجمع قطرات النور، والكتاب كله من نمط خاص، لأنه يضم بشارات الأنبياء جميعاً للناس أجمعين، ويهدي إلى نوع من التفكير لتنظيم الحياة، فلا يتوسل بالمادة لتنظيم الحياة، وإنما يستخدم الروح، التي يعبّر عنها العقل، لتنظيم الحياة، وبطبيعة اختلاف هدفه عن أهداف سائر الكتب، يختلف أسلوبه عن أساليب سائر الكتب، فلا يتصاغر ولا يتملق لاستدرار عطف الناس نحو هدفه، وإنما يتحلى بالصراحة والصرامة، في عرض الحقائق، ومواجهة الناس بواقعهم حلواً كان أو مراً، لأنه لا يحتاج إلى أحد والكل يحتاجون إليه، فلا يهدف إلا أن يعرّف للناس كل شيء، حتى لا يؤخذوا على حين غرة، ثم لا يهمه إن قبلوا أو أدبوا، فيتحدث أبداً برقة، ولكن بشموخ، لأنه حديث الأعلى إلى الأدنى، حديث الخالق إلى المخلوق، حديث الله إلى الإنسان.