ليس من كاتب من جيل الستينات عمد إلى اختصار الزمان والمسافة إلى فنه، إلى التعالي بفنه، وإلى أن يكون بفنه، كعبد الرحمن مجيد الربيعي. فهذا القاص والروائي الذي خرج من ليل "الواقع الستيني"، بما شهد من انكسارات نفسية، أو عاش من تدمير للإنسان والواقع، كان له، مع عديد من أبناء جيله في الشعر والقصة والحياة، أن يتجاوز "عالم السياسة" وما أ...
قراءة الكل
ليس من كاتب من جيل الستينات عمد إلى اختصار الزمان والمسافة إلى فنه، إلى التعالي بفنه، وإلى أن يكون بفنه، كعبد الرحمن مجيد الربيعي. فهذا القاص والروائي الذي خرج من ليل "الواقع الستيني"، بما شهد من انكسارات نفسية، أو عاش من تدمير للإنسان والواقع، كان له، مع عديد من أبناء جيله في الشعر والقصة والحياة، أن يتجاوز "عالم السياسة" وما أورث النفوس من تجارب خائبة، مستعيناً على زمنه بالفن، فإذا به مجسداً روح المخاطرة. فهو فن طليعي في زمن أُريد للتقليدية أن تسوده، وهو فن مجدِّد في حياة متخلفة، مرتدة. وكأن الواقع الذي حلم هذا الجيل بتحقيقه لم يجد أمامه ما يشكل دعامة لتماسكه، في أوضاع مفتتة، غريبة على روحه، بعيدة عن تطلعاته، لم يجد غير الفن. فكان الفن مأمله، والإبداع أرضه التي يتحرك عليها مستوعباً هذا المحيط الواسع من التجارب التي عاش أو عرف وعانى...وإذا كان عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي بدأ مساره الفني الفعلي عن طريق "القصة القصيرة" قد اختار في فترة لاحقة "الفن الروائي" وسيلة تعبير عن هذا "المحيط" الذي عرف وعاش واختبر؛ فإن هذا "الاختبار" منه لم يكن وليد مصادفة، إنما كان انبثاقاً من رحم الإحساس بهذه التجربة الشاملة التي عاشها وجيله... كما كان نتيجة من نتائج تطور الإحساس بها وهو إحساس جعل "المصائر"، الشخصية العامة، تسيطر عليه بشبحها، فلا بدّ من أن تتأخر بمضمونها، أو تنفرد بحالاتها، وليس كالفن الروائي فناً قادراً على استيعاب ذلك، وعلى تجسيده والتعبير عن دلالاته ووضع إشكالاته في دائرة الوضوح الكامل.لقد كان الربيعي العنصر الأكثر مثابرة من سواه من أبناء ذاك الجيل على تأكيد معالم تصور جديد للأدب، وترسيخ أسس هذا البحث من خلال ما قدم من أعمال قصصية وروائية ساعدت، إلى حدّ كبير، على تبين المعالم الأساسية لشخصية هذا الجيل (جيل الستينات). وهو في ضوء ذلك حاول الجمع بين ما هو شخصي وما هو عام... بين ما هو واقعي معاش وما هو مطلق... بين ما هو آني وما هو دائم... منتقلاً، في ذلك، من الجزئي إلى الكلي الشمولي ومما هو مكاني إلى ما هو زماني.. محاولاً إيجاد حالات من التوافق (وقد يكون التضاد والتنافر) بين رؤيته والواقع، وبين ما يتلمسه من داخل هذه الرؤية وبين تفاصيل علاقات الحياة اليومية.وإذا كان الربيعي في أعماله كلها لا "يلغّز" الواقع، ولا حياة الآخرين، فيه كما تقدمها شخصياته الروائية، فما ذلك إلاّ لميله الشديد إلى أن يحي أفكاره بوضوح، كما يعيش حياته بوضوح، جامعاً فيها بين "الرغبة" و"ممارسة الرغبة"... بين "الواقعي" و"التخيلي"... وبين "الحياة" و"اختيار الحياة". ومن جهة ثانية فإنه وبمزيد من الثقة يمكن القول، وعلى ضوء ما سبق، بأن شخصيات الربيعي تعيش حاضرها على نحو مكثف وعميق، ومن خلال عيشها الحاضر وانغمارها بلحظاته على هذا النحو فإنها قد ترتدّ إلى ماضيها، بضرب من ضروب الاستعادة والاستذكار، نابشة فيه ما يمكن أن يضيء اللحظة الحاضرة، أو يشكل عاملاً مساعداً على تفسيرها. أما المستقبل فهو لا يظهر في كثير من رؤاها. لماذا؟ ربما لأن أفكارها جميعاً منبثقة من هذا الحاضر. وأن شخصياتها تعيش هذا الحاضر ولا تهرب منه (وإن كانت معبأة بجميع إحباطات الماضي الذي عرفت وعاشت)... ومن الثقة بما يمكن عمله في هذا الحاضر.وأخيراً... هل من الممكن القول عن عبد الرحمن مجيد الربيعي بأنه "روائي يؤرخ" لجانب، وجانب مهم من حياة الشعوب العربية ومن تجاربهم الخائبة، الروايات الخمس التي كتبها الربيعي تشير إلى هذا، وترسم ملامحه الواضحة. وهذه الدراسات التي ضمها هذا الكتاب والتي تناولت هذه الروايات الخمس تؤكد ذلك، ومن زوايا عديدة ومختلفة... تلتقي جميعاً عند موضوعها: "عبد الرحمن مجيد الربيعي روائياً".