مر تدوين التاريخ النبوي بمراحل ثلاث: مرحلة سرد الأحداث، وتباين التفاصيل، وإستعراض جزئيات الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ومجريات الأمور والوقائع التي حصلت، وهي التي سماها المؤرخون بالتاريخ النقلي.وقد تكومت وتراكمت من هذه المرحلة، كمية هائلة من المصنفات والتواريخ والكتب والمؤلفات، امتد تناولها لأحداث هذا التاريخ مئات السنين، مع أن أحد...
قراءة الكل
مر تدوين التاريخ النبوي بمراحل ثلاث: مرحلة سرد الأحداث، وتباين التفاصيل، وإستعراض جزئيات الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ومجريات الأمور والوقائع التي حصلت، وهي التي سماها المؤرخون بالتاريخ النقلي.وقد تكومت وتراكمت من هذه المرحلة، كمية هائلة من المصنفات والتواريخ والكتب والمؤلفات، امتد تناولها لأحداث هذا التاريخ مئات السنين، مع أن أحداث تاريخ النبوة والتنزيل قد توقفت بشهادة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.ولكن هذه الكتب والمؤلفات بقيت تتحدث عن وقائع هذا التاريخ وبقي الباحث يجد في مصنفات في القرن الثالث والرابع والخامس معلومات عن أحداث ووقائع حصلت في مصنفات القرن الثالث والرابع والخامس معلومات عن أحداث ووقائع حصلت في التاريخ النبوي لم تتعرض لها مصنفات القرن الأول والثاني.ثم يجد الباحث في كل المصنفات، مطلقاً، تبايناً وتناقضاً عجيباً في أخبار هذا التاريخ، في أمكنة حوادثه، وأزمانها، وشخصيات حوادثه، حتى في إسم واحد وحدث واحد ومكان يوجد عشرات الأخبار المتباينة والمتعارضة.إذن فالمرحلة الأولى من التاريخ النبوي هي مرحلة سرد الأحداث والوقائع والمجريات، وتحتاج إلى جهد عظيم في تقرير ما جرى وما وقع أقرب ما يكون إلى الواقع، وتحتاج إلى تحديد الحدث والموضوع بدقة، وإلى حسم مادة التباين والتعارض؛ أما المرحلة الثانية، بعد تقرير ما جرى من وقائع وأحداث، وبعد حسم مادة الخلاف في كل واقعة وكل شخص، وكل زمان ومكان من موضوعات ومتعلقات التاريخ النبوي، لا بد أن ينتقل الباحث إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة تجميع الأجزاء المتناثرة وتقريبها من بعضها البعض وتقديم الصورة العامة المتكاملة للحدث التاريخ، وهذه المرحلة لا بد أن تستند إلى صحة ودقة معالجة المرحلة السابقة، فالسؤال من أين أتت هذه الأخبار ومن أين التعارض والتباين فيها، يثبت وجود وتدخل في صياغة أخبار التاريخ النبوي، أدى إلى تحقق وجود الكذب والدسّ والتشويه والتحريف في طيات هذا التاريخ....ولذلك كان على الباحث المخلص أن يتجاوز محنة تحقيق وتدقيق وتمحيص أخبار المرحلة الأولى بأمن وسلام حتى يخلص إلى إستنتاج أحداث ووقائع يختارها، وأنها هي التي حدثت ووقعت، وليس غيرها، ثم ليقوم بعد ذلك بصياغة الصورة العامة وتجميعها، وهو التعبير عن جمال وكمال التاريخ النبوي بأبهى صوره؛ ثم تأتي المرحلة الثالثة من دراسة التاريخ النبوي، وهي مرحلة سبر غور الصورة المتكاملة التي كونت من أجزاء ثم إثبات أنها وقعت وحدثت بالفعل، وإكتشاف المعاني والدروس والتجارب التي تزخر بها هذه الصورة، وفلسفة هذه الصورة، وموقع هذه الصورة في التجربة الإنسانية، في زمانها، وفي كل زمان أتى بعدها، وفي الزمان وفي الآتي وفي المستقبل، وبذلك تكون هذه المرحلة هي بيت القصيد، ومربط الفرس، والكنز المفقود، الموجود لكن أحداً لا يراه، بسبب من منع من رؤيته عند دسّهم أو إدخالهم في جزئيات وأحداث التاريخ النبوي والقرآني ما ليس منه، وبسبب الذين لم يطبقوا قواعد البحث العلمي والتاريخي بعدلٍ وإنصاف، فلم يطردوا الدخيل ويثبتوا الأصيل، بل باعوا دينهم بدنياهم، وقدموا صورة مشوهة للتاريخ النبوي القرآني.من هنا، فإن الدخول في معترك كتابة التاريخ النبوي والقرآني وتحديد الغثّ من السمين منه، وتكوين صورة واضحة له، وإكتشاف ما فيه من دروس وقيم وتجارب، هو دخول في ثلاث مبارك مترتبة على بعضها، مراحل ثلاث لا بد من حسمها بالتدريج؛ وقد قام علماء المسلمين بجهود جبارة في كل مرحلة، وحققوا إنجازات، لا بد لكل باحث أن يأخذها بعين الإعتبار، فهذا قانون تراكم التجارب.وقد كان هذا الكتاب من آخر الخطوات في هذه المسيرة الخالدة، وإن ما أنجزه السابقون فيها يعبق أريجه في كل صفحة من صفحاته، فهو ليس منقطع الجذور، ولا ينطلق من الصفر، سعى الباحث فيه تقديم ما بإستطاعته، في مسيرة تقرير السليم من السقيم في تاريخ النبوة والقرآن الكريم، وفي تقديم الصورة التاريخية المتكاملة لما جرى في هذا التاريخ، في محاولة إستكشاف المزيد من أنوار المعارف والمعاني والدروس والتجارب التي يحفل بها هذا التاريخ، والتي هي بحر لا ينفذ مهما غرف منه السابقون، واللاحقون والمعاصرون.