الكاتب مسجل لحياة المجتمع، وهو يسجلها على مستواها الظاهر ومستواها المحجوب. وهو يسجلها كما يراها هو، لا كما يريده المجتمع أن يراها. لأن مهمته الكبرى هي الإخلاص لعينيه وإحساسه، بينما يؤت المجتمع التمويه عن قصد أو غير قصد، فيحاول تغطية علله أو تبريرها بشتى الأساليب التي لا تنطلي على الكاتب. الكاتب خارج على المجتمع، لأنه غير راض ع...
قراءة الكل
الكاتب مسجل لحياة المجتمع، وهو يسجلها على مستواها الظاهر ومستواها المحجوب. وهو يسجلها كما يراها هو، لا كما يريده المجتمع أن يراها. لأن مهمته الكبرى هي الإخلاص لعينيه وإحساسه، بينما يؤت المجتمع التمويه عن قصد أو غير قصد، فيحاول تغطية علله أو تبريرها بشتى الأساليب التي لا تنطلي على الكاتب. الكاتب خارج على المجتمع، لأنه غير راض عنه، ويرفض التواطؤ معه على الفساد والظلم، غاضب عليه لغو غائتيه، لقصوره في العقل والعاطفة، لعيشه على تبادل الخداع بين أفراده، لعجزه عن رؤية الجمال والحس به، والكاتب هو المخلوق الوحيد الذي يصعد سلم المجتمع ويهبطه، يتردد دوماً بين أعلاه وأسفله، بحثاً عن "الإنسان" الإنسان المركب من لحم وعظم، من حزن وفرح وجوع وشبق، لأنه يعشق هذا الإنسان. الكاتب مراقب لمأساة الحياة في المجتمع. إنه يرقب تخبط الإنسان بين مطامحه ومخاوفه وكبريائه. انه يرقب الورود ترفع خدها للشمس، ويرى الأفاعي المخفية تحت أوراقها. إنه يضحك من مجتمعه ويبكي عليه معاً. الكاتب رأس جسر لانطلاق المجتمع. من قلمه يصيب نيراناً على العوائق المنصوبة في وجه المجتمع. وهو محفز المجتمع ودليله. ولا يستطيع أن يقوم بهذا الدور، إلا لأنه يدرك مواطن الضعف والقوة في أفراد جماعته، وبوسع عينهم أن تتعدى يومهم إلى غدهم هذا لا يعني أن المجتمع يعترف بالكاتب.
إن المجتمع يتوخى الطمأنينة وراحة البال، أما الكاتب فلا ينصرف عن زعزعة هذه الطمأنينية الظاهرة، لأنه يعرف أنها اسم آخر للجمود والرضا بعبث الموت". بعين الناقد لا الكاتب، يرسم جبرا إبراهيم جبرا هدوء وملامح شخصية الكاتب وذلك يأتي ضمن محاولة نقدية يتناول فيها جبرا مجموعة من الأعمال الأدبية يمسها بدقة، كهيكل محجوب له هندسته وتعقيده وكوافه التي تنطلق فيها دينامية الشكل. منطلقاً من حقيقة وهي أن النقد في النهاية، ان لم يكشف عن ذلك كله، أو بعضه، فهو مخفق في مهمته. لذا كان جبرا في محاولته النقدية هذه يبحث عن الصلاة والوشائح والتصاميم الخفية في كل جزء من أجزاء العمل الذي يتناوله بالنقد، يبرزها للعين، كما تنطلق المعاني الأوسع والأعمق الحبيسة له.