ماذا سيكون في جعبة محمد حسنين هكيل وقد حان الانصراف؟! هي فيها الكثير مما هو في حسبان القارئ دون غير حسبانه. فيها الكثير من الشفافية وفيها الكثير من الصراحة إلى درجة كشف الحساب. يضع محمد حسنين هيكل نفسه وجهاً لوجه مع القارئ حيث بدا وعند استئذانه منه للرحيل وكأنه يحادث نفسه. فلحظات العزم على الانصراف حتى بدون استئذان تكررت وكان لك...
قراءة الكل
ماذا سيكون في جعبة محمد حسنين هكيل وقد حان الانصراف؟! هي فيها الكثير مما هو في حسبان القارئ دون غير حسبانه. فيها الكثير من الشفافية وفيها الكثير من الصراحة إلى درجة كشف الحساب. يضع محمد حسنين هيكل نفسه وجهاً لوجه مع القارئ حيث بدا وعند استئذانه منه للرحيل وكأنه يحادث نفسه. فلحظات العزم على الانصراف حتى بدون استئذان تكررت وكان لكل منها مسوغاته ومبرراته. ومن باب الدقة فإن هاجس الانصراف بدون استئذان ومض لأول مرة في خواطر محمد حسنين هيكل مساء يوم 28 سبتمبر 1970 في غرفة نوم جمال عبد الناصر نفسه، حيث كان صديقه الكبير أمامه على فراش نومه، وقد تحول بعد دقائق إلى فراش موته.
ولم يكن سبب ما لمع، برقاً، في خواطره مجرد التفجع والأسى، وكان هناك منه كثير، لكن السبب أن هيكل وقد أدرك هول ما جرى بعد فترة من العجز عن التصديق، متلفتاً حوله ليلمح، وكأنه خيال، ما أثار عنده ظنوناً غامضة أثارت في نفسه دعوت للتخلي والانصراف، إلا أن عند الرئيس أنور السادات ما أثناه عن عزيمته، كاشفاً في معرض حديثه عن الأسباب ما كان في تلك الفترة بالذات من أحداث وما تبعها من مجريات سياسية تتابعت خلف الكواليس وتزامنت مع فترة الإعداد لحرب 73 وما بعدها، حتى بدا هذا الموضع من سياق حديث هيكل عرضاً لكشف حساب متصل بجوانب متعددة من تلك المرحلة، ويمضي هيكل في حديثه مع القارئ مستعرضا معه الأزمات التي مرّ بها ومرت به منذ أيام الرئيس السادات ومنذ لحظات اختلافهما على الكثير من المواقف إلى حين وقوع الحظر على ما يكتبه في مصر والاحتجاج على ما يكتبه خارجها ومن ثم اعتقاله في سبتمبر/أيلول 1981 في إحدى زنزانات سجن طره ضمن حملة الاعتقالات المشهورة التي طالت كثيرين غيره من رجال ونساء مصر، ذلك الخريف الغاضب والحزين!
ويقول هيكل أنه وبعد خروجه مع المعتقل أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1981 عاوده هاجس الاستئذان في الانصراف مرة أخرى، فتلك نهاية مرحلة تواجد فيها بالضرورة المهنية والاختيار السياسي، وهي في الوقت نفسه بداية مرحلة أخرى مختلفة، وهو في العمر قريب من سن الستين وذلك هو التوقيت الطبيعي والقانوني لخروج الناس من الخدمة، ومن جانب آخر فإنه وعلى موعد غروب القرن العشرين عاوده الإحساس بأنه عاش مع ذلك القرن العظيم أكثر من ثلاثة أرباعه دارساً ممارساً، وعلى فرض أنه بقي عنده ما يمكن أو يصح قوله، فإن اللائق، هذه اللحظة، أن يتنبه ويتذكر، وإلا وقع الانحدار بمجرد الاستمرار، إما إلى خطأ في قواعد الحساب وإما إلى إنكار فعل الطبيعة، إلا أن هناك من الملحات من الأمور المهنية ما دعته إلى التريث في الانصراف حيث وفي أوائل الثمانينات تلقى دعوات إلى ظهور في الصحافة المصرية، تردد حينها هيكل إلا أنه وبإحساسه أدرك أن الأزمنة تغيرت كما أنه تغير، وتبدى له أنه رجل يجعل على كتفيه بعضاً من حمولات مراحل سبقت وكلها مؤثرة عليه (سواءً أراد هذا أم لم يرده لا بد أن يتابع المسير ويمضي حاملاً مهمته ليؤديها بإخلاص ليقف مرة ثالثة أمام موقف يثير في نفسه هاجس الاستئذان في الانصراف، وهذه المرة هو مختلف عن كل مرة، إذ أنه تعرض لأزمة صحية بعد اكتشاف خلايا سرطانية في كليته، يتحدث هيكل عن تلك الأزمة التي مر بها والتي مثلت تجربة أعقبها إحساس لديه بضرورة الانصراف، إلا أن شيئاً ما أثنى من عزيمته حيث اعتبر أن انثناءه عن مهمته الملقاة على كتفيه يمثل في تلك الظروف تنكراً وربما جحوداً.
لذا، وعند انفتاح الباب أمامه لنوع من العودة إلى القارئ المصري عاد من خلال الصحافة ومن خلال الكتب التي تصدرها دور نشر عربية وعالمية. وهكذا حقق هيكل رجوعاً موفقاً أغنى من خلاله الساحة الصحافية السياسية وعالم الكتب العربية والعالمية ذات الاتجاه الفكري السياسي بأفكار وبتحليلات هي بحاجة ماسة إليها في فتراتنا تلك يتحدث هيكل عن تلك الخطوة وما تبعها من خطوات بكل صراحة، وبكل شفافية ليصل بالقارئ إلى نهاية المطاف حيث بات لديه الاستئذان بالانصراف واجب. وهو يقول: "إن من صدق تكريم الحياة ووجوب احترامها، أن الناس لا يصح لهم أن يتسمروا حيث هم حتى آخر قطرة زيتٍ في المشكاة، وإنما الأفضل أن تظل لديهم بقايا همة تسمح لهم، بعيداً عن الزحام بالنظر إلى حركة التقدم الإنساني العظيمة، ومتابعة حيوية التاريخ الهائلة قادرين على ذلك بأشواق تيسرها بقية من عافية وعقل. تحفظ لهم صلة ممكنة بعصور مذهلة (ومتوحشة!) تقوم الآن فعلاً على التغيير الدنيا شكلاً وموضوعاً روحاً وحركة... إن مساحة البعد تمنح صاحبها فرصةً أوسع للتفكر والتأمل، والنظر إلى الوراء في أناة وروية، والنظر إلى الأمام بعقل وقلب ما زال فيها حس ونبض، خصوصاً، من رجل كان له حظ موفور مع الدنيا والناس، وذلك في حد ذاته يكفي وزيادة عدد من الطاقة له سحر التجدد ولمسة من الحيوية، وربما الشباب حتى عن الثمانين". وختاماً ماذا يمكن القول وعلى ضوء تقرير محمد حسنين هيكل الختامي؟! كل ما في الذهن إشارات وإيماءات بأن عند محمد حسنين هيكل مزيداً من العطاء سيأخذ أشكالاً خارج التوقع والمألوف.