إن التفكير الهادئ والموضوعي يميل إلى اعتبار العولمة هي، في كل الأحوال، مجرد محطة، وليست آخر المحطات، في مسيرة النظام الرأسمالي، ومن ثم فالمجال مفتوح أمام ظهور اتجاهات أو عولمات أخرى، بمعنى أن الحياة بأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أشد رحابة من اختزالها أو "سحنها" في عولمة واحدة يشكو منها القاصي والداني حتى داخل معاقلها...
قراءة الكل
إن التفكير الهادئ والموضوعي يميل إلى اعتبار العولمة هي، في كل الأحوال، مجرد محطة، وليست آخر المحطات، في مسيرة النظام الرأسمالي، ومن ثم فالمجال مفتوح أمام ظهور اتجاهات أو عولمات أخرى، بمعنى أن الحياة بأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أشد رحابة من اختزالها أو "سحنها" في عولمة واحدة يشكو منها القاصي والداني حتى داخل معاقلها الأساسية في بلاد الغرب. وهل كانت مظاهرات سياتل، وجنوة، وبراغ، وجنيف إلا شكلاً من أشكال الرفض لكل تجليات العولمة التي يطلق عليها البعض "غَوْلَلَةْ" من غول، للدلالة على خطورتها وتوحشها. وكان طبيعياً أن تتسع دوائر المعارضة لهذه العولمة المتوحشة التي تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقراً فتعددت المسميات وظهر "التحالف ضد العولمة" الذي يحشد مناهضيها في صف واحد، وتأسس "المنتدى الاجتماعي العالمي" ليكون مناوئاً للمنتديات التي تعطي لنفسها الحق "مثل مؤتمر دافوس الشهير" في رسم سياسة العالم الاقتصادية. كما ظهر في البرازيل "المنتدى العالمي للبدائل" الذي انتشرت خلاياه في أنحاء العالم ويقدم أطروحات بديلة للعولمة الراهنة التي ليست إلا شكلاً من أشكال الهيمنة الأميركية. وهكذا وبين الـ "مع" والـ "ضد" انقسم العالم إلى قسمين، وطالب البعض، بسبب ضراوة هذا الانقسام، إلى ضرورة إحداث انقلاب في مسيرة التاريخ الإنساني، لأن العالم، والحالة هذه، لم يعد يحكمه رجال السياسة وإنما المنظمات الاقتصادية الدولية الكبرى مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية في أوروبا، وحلف الناتو، ومنظمة التجارة الدولية. والخطير في الأمر أن منطق السوق الحرة الذي تعتمده العولمة المتوحشة هو الذي بات يسود ويقرر، وليس مندوبو الشعب، وتسربت السلطة كحفنة الرمال من بين أصابع الساسة ليقبض عليها رجال الاقتصاد "المسيطرون على الميديا والاتصال، والمعلوماتية، وتكنولوجيا الجينات". ولأن هدف العولمة هو تحقيق إنتاج وفير للتصدير واحتكار الغذاء في العالم، وإحكام قبضة أميركا على طعام البشر، فلقد دوت في الآفاق صرخات تحذر من الرعب الغذائي الذي سيكون، بالقطع، أشد فتكاً من الرعب النووي، وتحتج على أولئك الذين منحوا أنفسهم "لقب قادة العالم" الذين لهم وحدهم حق الالتقاء خلف أبواب مغلقة لتحديد مستقبل كوكب الأرض لصالحهم.على ضوء هذه المعطيات كان لا بد من اجتهاد ماض على الصعيد الفردي لمواجهة سلبيات هذه العولمة فكانت مساهمة الدكتور سعيد اللاوندي في تقديم دراسة ورؤية في كتابه هذا، ولأن هدفه الأسمى هو تقديم اقتراحات وليس مجرد مطالب واحتجاجات، وذلك من أجل الانتقال إلى القراء وتوزيع الثروات، وضمان نمو اقتصادي دائم للكون، والحفاظ على الديموقراطية، ودور الدولة في مواجهة العولمة فكان لا بد للدكتور اللاوندي من طرح جملة من البدائل "أو الأطروحات" لتجميل وجه العولمة، منها إفساح المجال رحباً أمام مؤسسات المجتمع المدني كي تشارك في رسم السياسات، وتفعيل دور المنظمات الدولية، وخصوصاً الأمم المتحدة بعد أن أصبح مشكوكاً في كفاءتها بسبب بيروقراطيتها ونقص الشفافية فيها.. ثم "أنسنة العولمة" أي إلباسها ثوباً إنسانياً واجتماعياً، كي تولي فقراء العالم اهتماماً أكبر وتكف عن تقديمهم "قرابين" في محراب الرأسمالية المفترسة..إلى ما هنالك من أطروحات جادة وهادفة وواعية يقدمها المؤلف كبدائل للعولمة وكلمات يقولها بأنه ولئن كانت العولمة المتوحشة تزن شعوب الأرض بكل ما تعنيه من ثقل اقتصادي (وثقافي وحضاري أيضاً)، بميزان الربح والخسارة وكأنها "سلع" تباع وتشترى، فالثابت أن الأطروحات الجديدة وإن لم تكن بدائل حقيقية بمعنى وضع شيء مكان آخر، إلا أنها تخفف كثيراً من "وحشية" هذه العولمة، وترسم لها "وجهاً إنسانياً" بديلاً عن وجهها الرأسمالي الثقيل والكالح.