حجارة تحكي وأنقاض تنتظر

هذا الكتاب هو الحلقة الأولى من مشروعٍ يسعى إلى توثيق ما تبقّـّى من البلدات الفلسطينية التي هُجِّر أهلها في نكبة عام 1948 وتم هدمها أثناء الحرب وفي السنوات التي تلتها. وتتعرض أنقاض هذه البلدات داخل الخط الأخضر إلى النـهب والتخريب بشكل مستمر، فسكان المستوطـنات اليهودية يستولون على حجارة بيوتها لبناء بيوتهم، وينـهبون ما يجدونه فيها من آثار تاريخية وبقايا فلكلورية لتزيين حدائقهم ومنتجعاتهم. كما أن التوسع الاستيطاني في منطقتَي الساحل وجبال الجليل، والذي شَهِد في العقدين الأخيرين تسارعاً لم يشهده من قبل، يؤدي باستمرار إلى اختفاء معالم البلدات الفلسطينية المهجَّرة ومحو آثارها من الوجود. من هنا تنبع الحاجة إلى توثيق أنقاض هذه البلدات قبل أن تخـتـفي أو تتغير معالمها إلى الأبد، ففي ذلك تثبيتٌ للتاريخ الفلسطيني، وللحق الفلسطيني الذي يستند عليه. ومن الواضح أن التوثيق بهذا المعنى يجب أن يكون فوتوغرافياً لكي يرقى إلى مستوى الوثائق الدامغة التي لا يمكن دحضها، إلا أن لهذا المشروح الفوتوغرافـي بعد آخر بالغ الأهمية، لمِـا له من انعكاسات على الهوية الفلسطينية في وضعية التمزق والاغتراب. فالغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، أولائك الذين يعيشون في الشتات وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، يُمنَـعون من عبـور الخط الأخضر والدخول إلى مناطق الـ48 لإلقاء نظرة على بلداتهم التي هُجِّروا منـها والتعرف على ما حل بها من تدمير وتخريب. إن ستين عاماً من القطيعة، ومن انتقال الصور الذهنية عبر الرواية الشفوية من جيل إلى جيل، جعلت الصور الذهنية تبهت في الذاكرة الفلسطينية، فاختلطت خطوطها واختفت تفاصيلها من مخـيّلة الجيل الثاني والثالث من المهجَّرين. ولذا فقد أصبح من الضروري الآن أكثر من أي وقت مضى أن يُـعـاد بناء هذه الصورة وتوضيح معالمها وتثبيت تفاصيلها في مخيلة الأجيال الشابة ووعيهم. وإذا كانت الصورة الفوتوغرافية لا تـُرِي إلا الأنقاض، فبالوصف الكلامي يمكن أن يُـفَـض الغبار عن الأنقاض، ويُعـاد بناء الكل من الأجزاء، وتبُـعَـث الحياة في هذه البلدات من جديد، لكي ترسخ في الذاكرة وتحيى في الوعي فتعزز الهوية وتجذّر الانتماء.