الحمد لله ربِّ العالمين، الذي خلقنا من نفسٍ واحدة، وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين المبعوث بالهدى ودين الحقِّ رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين . لقد أعطت الشَّريعة الإسلامية الأسرة جلَّ اهتمامها، وأولتها عناية ورعاية خاصة، كما حرصت أشدَّ الحرص...
قراءة الكل
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي خلقنا من نفسٍ واحدة، وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين المبعوث بالهدى ودين الحقِّ رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين . لقد أعطت الشَّريعة الإسلامية الأسرة جلَّ اهتمامها، وأولتها عناية ورعاية خاصة، كما حرصت أشدَّ الحرص على أن تكون العلاقة بين الزوجين علاقة وطيدة، قائمة على أسسٍ متينةٍ من المحبَّة والموَّدة والألفة والسَّكينة والطُّمأنينة والاستقرار، نجد هذا فيما يصوِّره لنا القرآن الكريم، حين يرسم بصورة واضحة السِّمات التي ينبغي أن تكون عليها الأسرة بقول الله تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وُرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون) وفي قول الرسول (انْظُر إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا). ومن أجل الحفاظ على الأسرة ودوامها، فقد جعلت الشَّريعة الغرَّاء من شروط عقد الزواج أن يكون على التأبيد، لا التأقيت، ووضعت الضَّمانات الكافية للدَّيمومة واستمرارية الزواج، وعلى الرغم من هذا السياج المتين، فإنَّه قد تنشأ بين الزوجين خلافات تؤدِّي إلى تنافر القلوب، واحتدام الصدام بينهما بحيث يؤثر على استمرارية الحياة الزوجية، بل إنَّ الحياة الزوجية، قد تنقلب إلى جحيم، بسبب تلك الخلافات القائمة بين الزوجين، فشرع الإسلام الطَّلاق كآخر علاج لهذا الخلاف والنِّزاع المستفحل بين الزوجين ؛ فالكي آخر الدواء. ومع مشروعية الطَّلاق وإباحته، إلاَّ أنَّه مقيَّد بالحاجة إليه، حيث إنَّ الأصل فيه الحظر لا الإباحة، لذا كانت مشروعية الطَّلاق من أجل تحقيق الغاية التي شرع من أجلها الطَّلاق ؛ وهي تعذر استمرارية الحياة الزوجية بين الزوجين . إلا أنَّ استعمال هذا الحقّ في غير ما شرع له، يلحق الضَّرر والأذى بالآخرين، سواء أوقعه الزوج بنفسه أم الزوجة بالتفويض، وهذا الضَّرر ممنوع في الفقه الإسلامي ؛ لما قرَّره الإسلام من قواعد عامة تندرج تحت قوله:(لاَ ضَرَرَ ولا ضِرَار). لذلك ؛ فإنَّ مستعمل الطَّلاق في غير ما شرع له، يعتبر متعسِّفاً فيه ؛ لما يترتب عليه من أضرار، نهت عنها الشَّريعة الإسلامية، عملاً بعموم القاعدة الشَّرعية :(لا ضرر ولا ضرار)، فكان لا بدَّ من اتخاذ تدابير شرعية للحدِّ من التعسُّف في استعمال هذا الحقّ . لذلك ؛ ونظراً لخطورة هذا المرض وكثرة وقوعه في أيامنا كان موضوع كتابي: “التدابير الشَّرعية للحدِّ من الطَّلاق التعسُّفي في الفقه والقانون" أسباب اختيار الموضوع: أولاً : أهمِّية الأسرة في بناء الأمَّة واستقرارها، حيث إنَّ الأسرة هي اللبنة الأولى التي يقوم على أساسها المجتمع، فصلاح المجتمع من صلاحها وفساده من فسادها، وإنَّ كثرة وقوع الطَّلاق - دون سبب مشروع - من أهم أسباب فساد الأسر وضياعها، وبالتالي فساد المجتمعات وزوالها . ثانياً : حرص الإسلام على دوام الحياة الزوجية وبقائها، والحفاظ عليها من أيَّة مؤثرات خارجية، قد تؤدِّي إلى هدم هذه الأسرة وإضعافها، وذلك حتى تنمو الأجيال في كنف الزوجين، وتحت ظل الآباء والأمهات ؛ لتعيش وفق تعاليم الإسلام، وتنشأ تنشئة إسلامية، حاملة تراث الأمَّة الإسلامية وحضارتها، محافظة عليها من الضياع، عاملة بأحكامها . ثالثاً : موقف الإسلام من التعسُّف في استعمال حقِّ الطَّلاق، وجهل الكثير من النَّاس هذا الموقف، وعدم معرفتهم بأحكام الطَّلاق، معتبرين أنَّ الطَّلاق حقٌّ مشروع، لهم الحقّ في استخدامه متى شاءوا بسببٍ أو دون سبب . رابعاً: ضعف الوازع الديني عند الكثير من النَّاس في أيامنا، ولجوئهم إلى الطَّلاق من أجل الإساءة إلى الآخرين والإضرار بهم . خامساً: إنَّ هذا الموضوع من المواضيع التي بحثها الفقهاء المعاصرون لكثرة وقوعه في أيامنا هذه، ولم يرد به نص خاص، ولا نظير يقاس عليه لذلك كان محلاً للاجتهاد بالرأي من قبلهم . سادساً: تعرُّض بعض القوانين للحديث عن التعسُّف في الطَّلاق والتدابير الخاصَّة به . سابعاً: إفراد هذا الموضوع في بحث مستقل بشكل متكامل، يعالج جميع جوانبه، ويبيِّن آراء الفقهاء المعاصرين في التدابير الشَّرعية للحدِّ من الطَّلاق التعسُّفي . ثامناً: عدم وجود مؤلَّف خاص ـ حسب إطلاعي ـ يلم شتات هذا الموضوع، ويفصل القول فيه.