يمتاز هذا البحث في تاريخ أُمراء الغساسنة الذي وضعه الأستاذ نولدكه بأُمور عدَّة قد يكون من الخير أن نشير إليها في هذه المقدمة لما لها من الأهمية التي تقدير الرسالة وإيضاح الطريقة التي انتهجها المؤلّف فيها.يمتاز هذا الدرس أولاً بوفرة المصادر التي بُني عليها، فلقد عمد المؤلف إلى الأُصول العربية وتقصّى وما تضمنته من الروايات والأخبا...
قراءة الكل
يمتاز هذا البحث في تاريخ أُمراء الغساسنة الذي وضعه الأستاذ نولدكه بأُمور عدَّة قد يكون من الخير أن نشير إليها في هذه المقدمة لما لها من الأهمية التي تقدير الرسالة وإيضاح الطريقة التي انتهجها المؤلّف فيها.يمتاز هذا الدرس أولاً بوفرة المصادر التي بُني عليها، فلقد عمد المؤلف إلى الأُصول العربية وتقصّى وما تضمنته من الروايات والأخبار عن أُمراء الغساسنة ولم يقتصر في بحثه هذا على المؤلفات التاريخية كتواريخ الواقدي وابن هشام واليعقوبي والبلاذري والطبري والمسعودي وحمزة الأصفهاني وابن الأثير وابن خلدون وأبي الفداء بل تعدَّاها إلى المصادر الأدبية كالأغاني والعقد الفريد والكامل للمبرد ودواوين الشعر القديم لا سيَّما المعلَّقات -، وتناول أيضاً المؤلفات الجغرافية - كمُعجمي ياقوت والبكري - فاستخرج منها معلومات جزيلة الفائدة حاكها في نسيج بحثه.غير أنَّه لم يتقيَّد بالمصادر العربية فحسب، لإعتقاده أنَّ موادّها ليست دائماً على ما يُرجى من الدقَّة والضبط في الرواية وتحرِّي الصدق في الأخبار، فهو ينتقد Caussin لإيمانه الأعمى بها ويقول في ملاحظاته الأولية: "كلّ هذا يدلّنا على أنَّ الوقت قد حان للقيام يبحث جديد في تاريخ هذه الأسرة، لا سيَّما وأنَّ تلك الثقة الساذجة التي كانت للكتبة - حتَّى Caussin - بالروايات العربية قد زالت اليوم من نفس كل متخصص في هذا الموضوع، فقد انقضى ذلك الزمن الذي كنَّا نعتبر به أقاصيص العرب الجميلة أخباراً تاريخية موثوقة، وأخذنا اليوم ننظر إلى تطبيقات العلماء المسلمين نظرةً صحيحةً فلا نعلِّق عليها أهميَّةً أكثر ممَّا تستحق".لهذا الأمر نجد المؤلّف يسعى إلى المصادر اليونانية والسريانية فيستغل فوائدها ويقابل أخبارها بالروايات العربية ليتوصل من هذه المقارنة إلى ما يبتغي من إقرار الحق في تاريخ الغساسنة، فنراه يرجع إلى التواريخ اليونانية التي وضعها سوزومن وبروكوييوس ومناندر الحامي واواجريوس وثيوفانس وثيوفيلكت وغيرهم، ويستند أيضاً إلى المؤلفات السريانية كتواريخ يشوع العمودي ويوحنا الأفسي وميخائيل السرياني وديونيسيوس التلمحري وابن العبري وأمثالهم، حتى أنَّه لم يَفُته أن يرجع إلى مؤلَّف القس يوحنا البكلَري الذي يؤرخ حكم ملوك الغوطيين الغربيين في إسبانيا فوجد فيه صدى لزيارة المنذر بن الحارث للقسطنطينية سنة 580م.زد على هذا كلّه أنَّ الأستاذ نولدكه يعتمد في أقسام عديدة من بحثه على النقوش التي اكتشفت في أنحاء سوريا المختلفة والتي حفظها لنا العلماء في مجموعاتهم أو أوصاف سياحاتهم، ونخص بالذّكر العالمين Wetzstein وWaddington؛ وغنيٍّ عن البيان ما للنقوش من الأهميَّة في تعيين تاريخ الحوادث وتحقيق الأخبار والروايات لا سيَّما إذا عرفنا أنَّها ترجع إلى زمن الغساسنة أو أنَّها - على الأقل - قريبةٌ من عهدهم