مقدمة"الأفغان العرب"... أو "العائدون من أفغانستان"، ظاهرة تخترق حياة جيل كامل من شباب العرب والمسلمين، لو لم يكن الأمر كذلك لما انبرى هؤلاء الشباب، لأسباب ودوافع متناقضة أحياناً إلى اختيار النزاع الأفغاني وأرض أفغانستان انتماء وتجربة وحياة.. وموتا. كانوا مهيئين للذهاب إلى أي مكان طالما أن أرضهم ومجتمعهم مستعدان لطردهم. ولم يذهبو...
قراءة الكل
مقدمة"الأفغان العرب"... أو "العائدون من أفغانستان"، ظاهرة تخترق حياة جيل كامل من شباب العرب والمسلمين، لو لم يكن الأمر كذلك لما انبرى هؤلاء الشباب، لأسباب ودوافع متناقضة أحياناً إلى اختيار النزاع الأفغاني وأرض أفغانستان انتماء وتجربة وحياة.. وموتا. كانوا مهيئين للذهاب إلى أي مكان طالما أن أرضهم ومجتمعهم مستعدان لطردهم. ولم يذهبوا في الخفاء، وإنما برعاية أعلى المراجع المحلية والخارجية. ليس في الجزائر فحسب وإنما من مختلف بلاد العرب والإسلام. في بعض البلدان منحوا امتيازات، وتمتع دورهم برعاية خاصة. كان الذهاب بقرار، أما الإياب فهو كلام آخر تطلب أحياناً مطاردات دولية، واتفاقات أمنية، وصفقات تبادل. انتدبوا لرسالة نبيلة، حاربوا وحورب بهم. كانوا نعمة من السماء، أصبحوا نقمة تقضي المضاجع. ذهبوا إلى أفغانستان لمواجهة المد الشيوعي، لمقاتلة "الإلحاد" و"الملحدين" السوفيات فأصبحوا الملتحين الذين ترن أجراس الإنذار في أجهزة الأمن لمجرد مرورهم. كانوا "مجاهدين" وأصبحوا مجرد "أفغان عرب"، بل أصبحوا مشكلة اعتملت وتفاعلت ثم انفجرت بين أيدي صانعيها. كانوا في حرب ضد الشيوعية، أصبحوا في حرب ضد الإسلام. عايشوا بلا وعي ما سمي لاحقاً "نهاية التاريخ" وها هم يفجرون بلا وعي أيضا ما قد يسمى "صراع الحضارات". قد يثيرون الإعجاب أو الاشمئزاز، قد يقابلون بالرفض والنفور أو بالتفهم والتماري، لكنهم في أي حال فرضوا أنفسهم على التاريخ المعاصر للمنطقة. كان هناك فراغ ما في مكان ما في مسيرات السياسة العربية والإسلامية، فحالوا لملئه بما تيسر لهم من خبرة. ولا ينبغي التعامل مع الظاهرة التي جسدوها كأنها مجرد شأن أمني يطوى في الملفات وينتهي أمره. إنهم تعبير عن مشكلة كامنة كانت ومازالت وستبقى، دفع البعض ثمنها لمواجهتها من أمنه واستقراره. ولكن، ما إن بلغت المشكلة بعدها الأمريكي حتى غدا ذلك الثمن وكأنه غير مكتمل وغير كاف. هذه الدراسة، تكشف عن وقائع الولادة السياسية والشرعية لـ "الأفغان العرب" قبل أن يصبح هؤلاء بـ"سلفيتهم الجهادية" مطاردين في كل أضلاع الأرض كـ"إرهابيين" خارجين على كل شرعية. بعدما كان اسمهم هذا يثير الإعجاب والاحترام. كان هؤلاء الشباب – الذين تركوا مجتمعاتهم وخرجوا من حياتهم الخاصة ليقاتلوا إلى جانب المجاهدين الأفغان، نموذجا للإخاء والتفاني، وتجسيداً للتضامن الإسلامي. ولم يكن معظمهم يعرف ما عقد من صفقات من وراء ظهورهم، بين الحكومات وبين أمراء الحرب وتجارها، وبين أجهزة وشبكات. والأرجح أن من أرسلهم إلى تلك الأرض لم يكن يهجس بتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي. وإنما كان يرى مصلحة في التخلص من هؤلاء الشباب. دُفِع بهم إلى حقل رماية ينفسون فيه احتقاناتهم، لا فرق إن عادوا أو لم يعودوا، والأفضل أن لا يعودوا، لكن المهم أن يرحلوا. لم يقدر أحد أن عودتهم المستحيلة ستتسبب بهذا القدر من الأضرار. قبل ذلك كانت الحرب على امتداد ثمانينات القرن الماضي، كانت للدولة العظمى السوفياتية أفغانستانها، مثلما كانت للدولة العظمى الأمريكية فيتنامها. لكن المحطة الأفغانية كانت الأخيرة، إذ ترافقت مع بداية النهاية للاتحاد السوفياتي، وللمعسكر الشرقي- الاشتراكي. كل ذلك ساهمت فيه خطورة أفغانستان، كموقع وطبيعة. يمكن هدمها فهذا لا يزيد الدمار إلا دماراً ويمكن سحق أهلها فهذا لا يزيد المعاناة سوى معاناة، لكن قهرهم يزيد عنادهم، كأنهم ينفذون عقاباً أصلياً بأن ينوبوا عن العالم في سكنى هذه البلاد القاسية بطبيعتها وفقرها، إلى حد أن أي قوة عظمى لم ترغب في استعمارها، وإن حاول كثيرون إخضاعها بالحديد والنار كما حصل أخيراً، ولكنها في النهاية مجرد بلد لا يطمح لأكثر من العيش بأمان.لم يكن متوقعاً أن تتواصل تلك الحرب ليشهد العالم ما سمي "الحرب ضد الإرهاب" كفصل آخر- أخير؟- من المأساة الأفغانية التي عبث فيها الغرب والشرق أيام الحرب الباردة ثم انسحب الطرفان منها كأنها لم تكن ولم تستمر مأساة شعب، ذنبه أنه وجد على خط التماس بين جبارين انهزم أحدهما تاركاً للآخر، الولايات المتحدة، احتكار حكم العالم. ترك هذا الشعب تائهاً مشرداً فضل طريقه إلى كابول ليعيد بناء الدولة، ومعهم "الأفغان العرب" تائهون مثله ومشردون. لم يفطن أحد لإعطائهم خريطة العودة. ولم يهتم أحد بتشخيص أي تغيير طرأ على هؤلاء الشباب في عزلاتهم الطويلة القاسية في جبال أفغانستان. ولم يسأل أحد: من هم الذاهبون ومن هم العائدون؟ لم يكونوا فعلاً هم أنفسهم. تغيروا، اكتسبوا العناد إياه، مغلفاً بالروح "السلفية الجهادية"، التي أضحت نوعاً من المقاربة اليومية للموت. إن الدراسة أولاً وأخيراً هي محاولة لتحليل "مواطن الظلم في اتجاهين"( )، ليس لأفغانستان البلد والشعب فحسب، وإنما للذين حملوا السلاح من أجلها، لتحريرها من الاحتلال أولاً، ثم لحسم الصراع على السلطة. تلاعبت بها أهواء أبنائها، تبعاً لارتباطاتهم الإقليمية، لانتماءاتهم العرفية والمذهبية، ولعلاقاتهم القبلية. وفي كل المراحل، كانت ظاهرة "الأفغان العرب"، هنا، جاؤوا من كل مكان، قتل العديد منهم وأسر كثيرون، شكلوا جسماً مستقلاً داخل أسرة المقاتلين، وتغيرت خريطة تمركزهم على الأرض مرات عدة. دقت نهاية الاحتلال السوفياتي نفير العودة، فعاد منهم من عاد وانضوى في حياة شعبه بصعوبة أقل أو أكثر، وانتشر الآخرون حيثما كان هناك نداء لـ"واجب إسلامي"، من البوسنة إلى ألبانيا، ومن جنوب إفريقيا إلى الصومال، ومن بلدان إفريقية أخرى إلى الشيشان. ولدت ظاهرة اسمها "العالمية الأفغانية". وبينهم من رأى أن "الواجب" يناديه في بلاده ذاتها، فعاد ليعيث فساداً سواءً في مصر أو في الجزائر، فيما لاحت بؤر مغرية من السودان إلى اليمن إلى سواهما. هنا تغير اتجاه الظلم ليحول ضد ذويهم. خرج هؤلاء الشباب من تجربتهم وقد تأفغنوا فراحوا يحاولون أفغنة العالم. حاربوا مع الأمريكيين وتحت لوائهم، وبعلمهم أو دون علمهم، وعندما انتهت الحرب مع السوفيات، التفتوا فوجدوا أن الأمريكيين يقلدون عدوهم السابق (السوفياتي). كانوا ضد "السفيّتة" وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه ضد "الأمركة".. وبدأت الحركية الجديدة التي ضربت في القلب الأمريكي. حتى في أحلك مراحل الحرب الباردة لم يكن "البنتاغون" مهدداً ولم يضطر الرئيس الأمريكي إلى التواري ولم تغفل الولايات المتحدة ولم تعزل نفسها عن العالم لبضعة أيام.. كل ذلك فعله "الأفغان العرب" في "عمل حربي" كما اعتبرته واشنطن، قد يكون الأقل كلفة في التاريخ، ولكن الأكثر كلفة على الإطلاق بنتائجه المباشرة وانعكاساته البعيدة المدى. ساهم "الأفغان العرب" في حرب تحرير أفغانستان واحتفظ الأفغان لهم بهذا الجميل، لكنهم تسببوا للبلاد بحرب أعتى مما شهده أهلها تحت النير السوفياتي. وهكذا أصبح "الأفغان العرب" متهمين في بلدهم الثاني، أصبحوا فجأة في نظر الأفغان القادمين "غرباء" و"أجانب" و"مصادرين" لإرادة نظام طالبان. إنها بداية النهاية لهذه الظاهرة لكنها قبل أن تنتهي نجحت في أن تضع السلام السياسي على محك تاريخي لم يتهيأ له. فمنذ لحظة التفجيرات في نيويورك وواشنطن، يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001( )، ارتسمت المطالبة الأمريكية بأن يغير الإسلام السياسي والاجتماعي والتربوي أساليبه وسلوكياته، لأنها في نظر الأمريكيين أرض خصبة لنمو "الإرهاب".نسيت واشنطن بإغماضة عين تاريخ تعاونها مع الحكومات والحكام العرب. استهلكت كل مصالحها ولم تعد تعرف سوى هدف واحد: أن تجتث الإرهاب من جذوره، وجذوره هنا في أرض العرب والمسلمين، الأرض التي طلع منها "الأفغان العرب"، وكأنهم الحقيقة الوحيدة التي اعترفت بها الولايات المتحدة في هذه المنطقة.