حمزة عليان |حاصرتها الأمراض وكادت ان تشلها، وضعفت لديها المناعة، عندما أصيب زوجها بنوبات متتالية، لكنها اثرت البقاء بالانعتاق من الآلام، وصممت على الابتعاد عن الاحزان التي تعيشها وتراكمت عليها كالخيمة في أعماقها، لتكتب مذكرات وجدت فيها البلسم لمعالجة ما يعترضها من منغصات.حقيبة بلقيس شرارة فيها رحلة العمر من الطفولة الى الشباب وح...
قراءة الكل
حمزة عليان |حاصرتها الأمراض وكادت ان تشلها، وضعفت لديها المناعة، عندما أصيب زوجها بنوبات متتالية، لكنها اثرت البقاء بالانعتاق من الآلام، وصممت على الابتعاد عن الاحزان التي تعيشها وتراكمت عليها كالخيمة في أعماقها، لتكتب مذكرات وجدت فيها البلسم لمعالجة ما يعترضها من منغصات.حقيبة بلقيس شرارة فيها رحلة العمر من الطفولة الى الشباب وحتى الكهولة، حقائب رافقتها وعاشت قابعة في الذاكرة، اعادتها الى تقبل الواقع والعيش فيه من جديد.انهت الكتابة، في الوقت الذي عاد فيه زوجها رفعة الجادرجي الى التعافي، وانهى كل منهما كتابه، تبادلا النقاش، وقرأ كل منهما ما كتب الآخر، رفعة اصدر كتابه عام 2014، بعنوان «دور المعمار في حضارة الإنسان»، وهي دفعت بكتابها «هكذا مرت الأيام»، ليصدر عام 2015 كطبعة أولى عن دار المدى. من الفصل الأول تأخذك بلقيس، وباسلوب سهل، لتسرد لك حكايا من الثقافة والأدب والسياسية ومتاعب الحياة.◗ بين هتلر وفيصلمنذ ان وعت على الدنيا، في حي العمارة بمدينة النجف القديمة، حيث النشأة عام 1933، وهو العام الذي تقلد فيه هتلر منصب رئاسة الحزب النازي في ألمانيا، وهو العام الذي توفي فيه الملك فيصل الأول في العراق، وأدت وفاته الى هيمنة نوري السعيد تدريجياً على السلطة، وأفضت الى صراع دام في المجتمع العراقي.مباشرة ترسم لنا المشهد المحيط بها، الأسرة والبيئة والصورة المرئية التي تقدمها لك، وهي ابنة الاستاذ محمد شرارة القادم من لبنان، عندما نزع عمامته، وارتدى الزي الرسمي المعتاد بالنسبة لموظفي الدولة في ثانونية الناصرية، حيث قضت العائلة مدة عامين في المدينة، بعد ان التحق والدها بسلك التعليم.◗ مهارة بالتعبيرمهارة بلقيس قدرتها على التصوير ونقل ما يجري حولها بطريقة مبسطة وغاية في الجمال الأدبي، ودقة في التعبير، بحيث تجد نفسك مثلا أمام المعلمة المسيحية المسؤولة عن الروضة في تلك الأيام، وكيف صورت لنا موت الملك غازي، بعد ان جاءتها مرافقتها الى المدرسة على غير عادتها لجلبها، بعد ان علمت والدتها بوفاة الملك غازي، حيث خرجت المدينة، كبارها وصغارها، الى الشوارع، وخلت البيوت من الناس، بحر من حشود الناس، بحت حناجرهم من الهتافات، «وجدنا أنفسنا في بحر متلاطم، ناتج عن فقدان ملكهم الحبيب، الذي ارتبطت به آمال تلك الجموع».◗ أشبه بالقطارمع كل فصل من الكتاب تجد جملة عناوين فيها الكثير من التشويق بمعرفة ما يدور فيها وحولها، وهي سرد لما احتوته ذاكرة المؤلفة، وكأنها بانوراما تجمع بين الحضور الشخصي وجوانب من السيرة في إطار عرضها للزمن الذي تعيش فيه، فهو أشبه بالقطار، الذي يسير في أرجاء المدن العراقية يتجول فيها وفي كل محطة هناك رواية، ومن سينما بابل في مدينة الحلة الى السفر الى لبنان بالقطار وزيارة الوصي الملك فيصل الثاني الى الحلة..هناك حكايات عن الحالة الثقافية والسياسية التي كان يعيشها العراق، تتوقف عند مشاهدة الافلام والمسرحيات المعروضة في تلك الفترة. ثم تسافر معها برحلة القطار الى حلب، ومن هناك بالسيارة الى بيروت وعودتها بعد العطلة الصيفية.◗ الانتقال إلى بغدادتنقل صورة عن أعراس ذاك الزمن والعادات والتقاليد المرافقة، وكيف عاشت مع أسرتها تقنين المواد الغذائية في الحرب العالميةالثانية.كانت الحلّة آخر مدينة عاشت فيها قبل ان يستقر والدها في العاصمة بغداد عام 1944، ويعين مدرسا في دار المعلمين في الرستمية، ترافقت الذكريات وهي في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وكيف هي أجواء التعليم بحي الأعظمية، والمعلمات اليهوديات الجميلات، اللواتي أخرن الهجرة من العراق لتحكي عن هذه الجالية ووعيها بنكبة الشعب الفلسطيني الأول عام 1948.◗ أيام الإنكليزوهي قبل الدخول الى الجامعة، وعت في أجواء عائلة تمتهن القراءة والأدب، توسعت آفاقها المعرفية، كان يتردد على منزلهم عدد من الأدباء والشعراء، منهم الأديب حسين مروة لتنتقل الاسرة بعدها الى حي الكرادة الشرقية، ووجود عائلات مسيحية في الحي وكيف انخرطت بالتظاهرات ضد معاهدة بورتسمورت عام 1948 اثناء المفاوضات بين العراق وبريطانيا ودخولها عضوا في رابطة المرأة العراقية والانتقال الى الجامعة فرع اللغة الانكليزية بكلية الآداب ببغداد. عندما خضعت الى امتحان الدخول على يد الكاتب جبرا ابراهيم جبرا والكاتب دزموند سيتوارت.◗ عائلة الجادرجيفي حي الوزيرية ببغداد أطلت الشابة بلقيس على عالم جديد، وهو عالم التعليم العالي في بغداد، طلبة فلسطين وعرب واتحادات تتنافس في خضم صراع سياسي بين اليساريين والقوميين وصورة عن المستوى العلمي والثقافي لأساتذة الجامعة الانكليز والعراقيين وإلقاء القبض عليها من قبل مديرية المخابرات «لشغبها» وقربها من الشيوعيين.الفصل الثالث، مشاهد من الالتقاء مع عائلة الجادرجي وعلاقتها برفعة، ابن كامل الجادرجي، وزواجهما غير المعتاد، كسرا فيه كل التقاليد والاعراف وتمضيتهما شهر العسل في كردستان ولقاءات الفنانين في دار الجاردجي وتعرضه الى السجن عام 1956 ثم إطلاق سراحه.◗ السجن والهجرةلعل الفضول يدفعك الى قراءة باقي الفصول، فتتعرف على أحوال العراق السياسية والثقافية، من ثورة 14 تموز الى جبرا إبراهيم جبرا وزوجته لميعة الى وفاة الفنان جواد سليم وزيارة شقيقتها مريم مروراً بانقلاب 8 شباط 1963 والنقلة المعمارية في تصاميم زوجها رفعة الجادرجي واتخاذه من محل «أيا» مركزا لأعماله ثم السفر الى غانا والانقلاب على الرئيس نكروما ووداع كامل الجادرجي.تعرضت كما زوجها الى عقوبة السجن، أيام حكم البعثيين وما طرأ على أسرتها من عقبات، وفاة والدتها وتعيين رفعة مستشاراً لأمانة العاصمة والخوف من آلة التصوير وهدم نصب الجندي المجهول على يد صدام حسين.سلسلة من الصدمات والتهجير الى خارج العراق، إلى أميركا وبريطانيا والانتقال الى لندن وانتحار شقيقتها حياة التي اصدرت كتابها المشهور «إذا الأيام أغسقت» واللقاء بالشاعرة لميعة عباس عمارة، سلسلة من الحروب داخل العراق وخارجه، لم تتوقف خسارة أصدقائها بالموت والفقدان، فبعد النكبة التي حلت بها بانتحار شقيقتي حياة وابنتها مها عام 1997، واجهتها كارثة جديدة عام 1999 عندما خسرت معظم ما تملكه، وهو حصيلة أربعين عاماً، ولم يعد لديها القدرة لا هي ولا زوجها رفعة من تمويل مؤسسة الجادرجي في لندن أو في بيروت اللتين أسسهما عام 1999، فاضطر الى إلغاء مؤسسة لندن والابقاء على بيروت لقلة الموارد المالية، كما أسس في العام نفسه، جائزة الجادرجي لأحسن طالب عمارة في الجامعات اللبنانية.وبعد ان فقدت والدتها، تسارعت الأيام في جريانها كسرب طيور مهاجرة، حطت في نهاية المطاف في أرض قاحلة، خالية من لون الحياة.الخروج من الطائفيةعاد اسم العراق ورئيسه ثانية للظهور على شاشات التلفزيون بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولأول مرة في حياتها، تجد بلقيس نفسها الى جانب المؤيدين لشن حرب على النظام، وهي التي كافحت ضد فكرة الحرب كحل للمشاكل في هذا العالم، سقط تمثال الطاغية عام 2003، وخرج العراق من نظام الصمت والرعب مثخناً بالجراح، بعدها بسنة بدأ أصدقاؤها يتساقطون بسرعة كتساقط أوراق الخريف، د. عبدالرحمن حسين ودلال المفتي زوجة الشاعر بلند الحيدري، وتتساءل بعد كل ذلك هل باستطاعة العراق الخروج من وحل الطائفية التي يسبح فيها؟ وهل فقد العراق وعيه وعقله؟ وظل الطريق؟قضت أسبوعين في بغداد عام 2007، وعملت على تجميع مواد ومقالات والدها التي كانت شقيقتها حياة قد جمعتها، قصائد وأشعار ومقالات في الصحف، في نهاية عقد العشرينيات وحتى وفاته بالسبعينيات.تضمن الكتاب مجموعة ملاحق خاصة بزيارة جبال الهملايا والسفر الى اليمن أثناء اغتيال إبراهيم الحمدي، واليابان والرحلة الى افغانستان وباكستان وصحراء الجزائر.