في سياق اقتصاد المعرفة تكون مجتمع المعرفة، أو حل محل مجتمع المعلومات. ومجتمع المعرفة ليس هو المجتمع الذي يملك المعرفة، أو يستخدم تقنية المعلومات والاتصالات، وإنما هو الذي ينتج المعرفة والمعلومات ويوظفها في مختلف أنشطة المجتمع..إنه مجتمع العلماء والمبدعين والمهندسين والمصممين والمفكرين وأصحاب المهارات العالية المستوى, الخالي من ا...
قراءة الكل
في سياق اقتصاد المعرفة تكون مجتمع المعرفة، أو حل محل مجتمع المعلومات. ومجتمع المعرفة ليس هو المجتمع الذي يملك المعرفة، أو يستخدم تقنية المعلومات والاتصالات، وإنما هو الذي ينتج المعرفة والمعلومات ويوظفها في مختلف أنشطة المجتمع..إنه مجتمع العلماء والمبدعين والمهندسين والمصممين والمفكرين وأصحاب المهارات العالية المستوى, الخالي من الأمية والجهل، الذي يستأصل الفقر ويحد من البطالة، ويوظف مهارات وقدرات أبناء المجتمع، لتأتي تقنيات المعلومات والاتصالات لتوفر الأدوات والوسائل المهمة لتحسين الصحة والغذاء والتعليم، وكذا هو المجتمع الذي يشتغل أكثر من نصف سكانه في المعرفة والمعلومات، والذي فيه نمو متزايد من قوة العمل التي تمتلك المعرفة وتستطيع التعامل معها، وتكوين الإشكال اللازمة لحفظ المعلومات والمعرفة واسترجاعها ونشرها، وتوفر المناخ الثقافي الداعم؛ لفهم عصر المعرفة وما يحتاجه من تغيرات وتجديدات لازمة.والمجتمع الذي وضع نفسه في طريق المعرفة واقتصاد المعرفة هو الذي أعاد نظرته للمعرفة وقدر قيمتها، وجعلها في مقدمة أولوياته، وعن طريقها ينظر إلى نفسه وإلى ما حوله، وإلى واقعه ويحديد مواقفه وعملياته وممارسته، ثم ينظر إلى مستقبله؛ لاكتشاف سبل تنميته، ورسم صورة المستقبل الذي ينشده، وتجهيز نفسه للسير نحوه.ومجتمع المعرفة بهذا المعنى والمغزى هو ما ينشده الدين الإسلامي، بدعوته كل المسلمين إلى طلب العلم وتعلمه بوصفه فريضة واجبة على كل شخص، وحثهم على تحمل المشاق في المداومة عليه، ثم دعوة المسلمين جميعاً أن يعلم كل شخص منهم من لا يعلم. وصدق رسول الله صلى الله علية وسلم القائل:" لتفشوا العلم و لتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم"، ثم يؤكد ذلك رسول الهدايا والسلام صلى الله عليه وسلم في حديث آخر على سبيل الذكر لا الحصر:" لأن تغدو فتعلم باباً من أبواب العلم خير لك من أن تصلى مئة ركعة".والثابت أن دول العالم تتجه نحو مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، وغيرها من مفاهيم وأساليب جديدة. ولم يعد هناك من خيار أمام دول العالم، ومنها البلاد العربية أن تختار أو ترفض ذلك. فإما أن تختار التوجه نحو مجتمع المعرفة، وتعد العدة لذلك، حتى تستطيع أن تحافظ على وجودها، وتقلل مخاطر العولمة، وإن رفضت ذلك؛ فتعصف بها أمواج العولمة العاتية، التي ستهمش قوى فعلها وتقوض وجودها، ومؤشرات ذلك ماثل في العديد من دول العلم الثالث، وسوف تتزايد في المستقبل. والواجب يحتم توضيح ما قد يثيره عنوان هذا الكتاب من لبس، إذ قد يوحي عنوان هذا الكتاب من أن هناك أشكالاً من اقتصاد المعرفة في البلاد العربية، في حين يشير واقع الحال إلى عدم تكون مثل هذا الاقتصاد في كل البلاد العربية بالصورة النقية والشاملة التي تكون عليه في أكثر البلاد الصناعية، ولكن دون أن يعني ذلك عدم توافر بعض مكونات اقتصاد المعرفة في هذا البلد العربي أو ذاك، تبعاً لإمكاناته وقدراته المتاحة، ونتيجة لجهود بعض البلاد العربية التي تسعى إلى تأسيس قواعد اقتصاد المعرفة بها، وحقق القليل منها إنجازات يعتد بها استجابة لتحديات اقتصاد المعرفة، كما سيلي بيانه في نهاية الفصل الأول.صحيح إن البلاد العربية ما تزال في طور الاقتصاد التقليدي المتعايش مع اقتصاد المعلومات بنسب وأوزان مختلفة من بلد عربي إلى آخر، إلا أن اقتصاد المعرفة هو المستقبل المنشود والأمل الموعود؛ لأن اقتصاد المعرفة غدا خياراً استراتيجياً على بلدان العالم حشد إمكاناتها وقدراتها للسعي نحوه وجني ثماره الموعودة، وتحقيق التنمية المستديمة المرجوة، وإلا ضاقت فرص تنميتها، وتضاءل أو توارى حضورها بين الدول، وهنا لا عجب إن استحكمت حلقات تبعيتها للدول الصناعية الكبرى، تذروها العولمة حيث تشاء.ويمكن لأية دولة عربية أن تؤسس لاقتصاد المعرفة إذا امتلكت إرادة قوية، وإدارة إستراتيجية حديثة، وأرست قاعدة تكوين رأس المال الفكري لدى أبناء المجتمع؛ وذلك بإيجاد بنية تعليمية وتدريبيه وبحثية، بشرية ومادية تمكن من توطين العلوم في كافة التخصصات، وتوليد معارف جديدة، بتطبيقات حديثة واستخدامها في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بدءاً من الأنشطة التي تُحدث تأثيراً قوياً في المجتمع، والاستفادة من الخبرات المتراكمة لتوفير مناخ علمي ثقافي داعم؛ بما يمكن من التحرك في اتجاه ردم أو تضيق الهوة المعلوماتية والمعرفية بينها وبين الدول الصناعية. وبذلك تكون هذه الدول قد قطعت خطوات أساسية في اتجاه اقتصاد المعرفة، ووضعت نفسها في طريق التنمية المستديمة.وهذا ما قصده هذا الكتاب باتخاذ الحاضر منطلقاً للنظر إلى مستقبل اقتصاد المعرفة في البلاد العربية؛ لاستنهاض الواقع الحالي وتلمس سبل تغيره؛ لبلوغ ذلك المستقبل.تلك هي رحلة هذا الكتاب، حيث تناول بين دفتيه ستة فصول،عرض الفصل الأول: نشأة اقتصاد المعلومات وعوامل تطوره إلى اقتصاد المعرفة، ثم التفريق بين اقتصاد المعرفة واقتصاد المعلومات، ومظاهر انتشار اقتصاد المعرفة.وحلل الفصل الثاني: أسس اقتصاد المعرفة بدءاً من تقصي أبعاد بنية المعرفة في ظل اقتصاد المعرفة، ومروراً بمفهوم اقتصاد المعرفة وأهميته، ومقومات اقتصاد المعرفة وخصائصه، ومكونات اقتصاد المعرفة وعملياته، وإدارة المعرفة، وانتهاءً بمجتمع المعرفة. وعرض الفصل الثالث: منظومة بناء اقتصاد المعرفة، وأساليب ومؤشرات قياس اقتصاد المعرفة.وركز الفصل الرابع: على تحليل العلاقة بين اقتصاد المعرفة والتنمية البشرية، وبين التنمية المستديمة والتنمية البشرية المستديمة، وكذا العلاقة بين التنمية والتنمية البشرية والتربية، ثم عرض أساليب ومؤشرات قياس اقتصاد المعرفة، وأساليب ومؤشرات قياس رأس المال الفكري، ومؤشرات قياس مجتمع المعرفة.وناقش الفصل الخامس: تحديات اقتصاد المعرفة، ومتطلبات بناء اقتصاد المعرفة في البلاد العربية، في حين قدم الفصل السادس: تصوراً مقترحاً لتطوير اقتصاد ومجتمع المعرفة في البلاد العربية، وذلك بدءاً من مبرراتالتطوير ومنطلقاته، ومصادر بنائه، ومروراً بتحديد مجالات تطوير اقتصاد المعرفة ومنظومة التربية والبحث العلمي فمجتمع المعرفة، وانتهاءً بالضمانات الداعمة لنجاح التصور المقترح.