تعتبر العدالة الدولية الغاية التي يسعى القانون والمشرع على حد سواء لتحقيقها لأنها هي المعيار الدال على الاحترام المكفول لآدمية الإنسان ومرآة التحضر والرقي البشري، وتحقيقها يعد نتيجة منطقية لوجود جهاز قضائي نزيه ومؤهل لكفالتها وإرساء دعائمها. فالقانون والمؤسسة القضائية العادلة المستقلة خصائص لازمة لا غنى عن أي منهما لإقامة العدال...
قراءة الكل
تعتبر العدالة الدولية الغاية التي يسعى القانون والمشرع على حد سواء لتحقيقها لأنها هي المعيار الدال على الاحترام المكفول لآدمية الإنسان ومرآة التحضر والرقي البشري، وتحقيقها يعد نتيجة منطقية لوجود جهاز قضائي نزيه ومؤهل لكفالتها وإرساء دعائمها. فالقانون والمؤسسة القضائية العادلة المستقلة خصائص لازمة لا غنى عن أي منهما لإقامة العدالة. وتعد الضمانات الممنوحة للمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية واحدة من أهم المواضيع المتعلقة بالعدالة، خاصة أن الإجراءات التي تتم أمام المحكمة الجنائية الدولية من أخطر الإجراءات الماسة بحقوق الإنسان وحرياته إذ تمثل قيداً وجوبياً يخضع له الإنسان بهدف الوصول إلى الحقيقة باعتبارها غاية العدالة القضائية الدولية، ومن هنا يبرز الدور المهم للمحكمة الجنائية الدولية في كيفية الوصول إلى غاية العدالة فلا ينبغي للمحكمة أن تحرص فقط على مراعاة مصلحة المجتمع الدولي بالإسراع في توقيع الجزاء على المتهمين بارتكابهم الجرائم الدولية، وإنما يجب أن يقابل ذلك الحرص على إرساء آليات وإعمالاً للنصوص التي تكفل للمتهمين ضمانات في جميع مراحل الدعوى الجزائية، لذا فلا يجب أن تكون نظرتها قاصرة في تغليب مصلحة أحد الطرفين على الآخر لاسيما أن إقرار الضمانات الكافية للمتهمين تقاس بمدى احترام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة من خلال نظامها الأساسي ولائحتها للأدلة لتلك المبادئ الراسخة في التشريع الجنائي الوطني والتي توصل إليها المشرع الوطني وبخاصة الأمم المتطورة في هذا المجال والتي دون احترامها سترجع سنوات عديدة للوراء، الشيء الذي دون شك سيحد من مصداقية المحكمة. وعليه فتعزيز مكانة المحكمة الجنائية الدولية وتوفير القبول العام لها مرهون بما تمنحه وما توفره للمتهم من ضمانات، خاصة أن هذه الضمانات تعد بمثابة السياج الحامي والدرع الواقي للحقوق والحريات، فالمتهم وإن كان قد أخل بنظام المجتمع الدولي بارتكابه أبشع الجرائم الدولية إلا أنه مع ذلك لازال بريئاً مما أوجب التحفظ في معاملته وتقييد المساس بحريته بالقدر الضروري واللازم. لاسيما أن احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية أصبح في عالم اليوم من أحد أهم المقاييس التي تقيم على أساسها وجود سيادة القانون أم لا؛ بمعنى أن أي نظام قضائي لا يحترم هذه الحقوق والضمانات يفسر على عدم وجود قانون يسيره هو في حد ذاته. ونظراً أن موضوع "ضمانات المتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية" من الموضوعات الحيوية ذات العلاقة الوثيقة بحقوق الإنسان فقد ارتأينا أن نتناوله بالدراسة مستعينين بالنصوص القانونية للمحكمة الجنائية الدولية، وخاصة النصوص المكرسة على مستوى المواثيق الدولية للوقوف على مدى فعاليتها ونجاعتها في توفير القدر اللازم من الضمانات الممنوحة للمتهم في جميع مراحل الدعوى. ومن هنا تبدو أهمية البحث في هذا الموضوع على مستويين أحدهما علمي والآخر عملي. فمن الناحية العلمية تبدو أهمية دراسة هذا الموضوع من الأوجه التالية: 1. إن بحث هذا الموضوع في القانون الدولي الجنائي يختلف عنه في القانون الوطني، ذلك أن الضمانات الممنوحة للمتهم قد استقرت في النظام القانوني الداخلي إلى حد بعيد فقد أسهمت التشريعات الجنائية الوطنية وأحكام القضاء الوطني في بلورة هذه الضمانات واهتمت بها إلى حد كبير، في حين أن دراسة ضمانات المتهم لها أهمية فائقة على المستوى الدولي كونها مطلباً أساسياً لضمان عدالة المحاكمة للطرف الضعيف ألا وهو المتهم ولأجهزة العدالة عموماً، إذ هي من المسائل الدقيقة التي تستحق أن تطرح على بساط البحث، وأن تحظى بعناية كافية وبتحليل موسع ودقيق نظراً لعدة اعتبارات أهمها: أننا أمام قانون دولي جنائي لازال في مرحلة الغموض وعدم الدقة، وثانيها أن دراسة هذه الضمانات متعلقة ليست بمتهم عادي وإنما بمتهم ارتكب ــ مبدئياً ــ جريمة دولية ذات طبيعة خاصة ممزوج فيها ما هو قانوني بما هو سياسي، وثالثها عندما تكون دراسة هذه الضمانات أمام محكمة تم إضفاء الصبغة الدولية عليها في وقت قريب جداً تكون ملزمة بتطبيق القانون السليم وإحقاق العدالة الحقة. 2. إن أهمية دراسة هذا الموضوع يمكن أن تبرز بشكل واضح إذا ما علمنا بأن هذه الضمانات هي التعبير الحي عن قوة القانون في مقاومة انحراف الأجهزة القضائية عن جادة العدالة، حيث تكون الضمانات القانونية المقررة للأفراد بديلاً لهم لمقاومة هذا الانحراف عن طريق سبل الطعن في أحكام القضاء. 3. إضافة إلى ما تقدم تبرز أهمية هذه الدراسة من جهة أنها تتناول موضوعاً حديثاً من حيث نشأة الجهاز نفسه وهو المحكمة الجنائية الدولية، ومن جهة أخرى أننا بصدد دراسة هذه الضمانات أمامها، وعليه فإن البحث في موضوع ضمانات المتهم يعرفنا بمدى إسهام هذه الضمانات والحقوق في بيان موقف المتهم من التهمة المنسوبة إليه، وتسهيل مهمة الكشف عن الحقيقة مع احترام حرية الإنسان وصون كرامته وآدميته .