حين قال أحد كبار الكتاب الإنجليز في القرن التاسع عشر: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا كان يختزل في هذه الكلمة خطاباً استعمارياً ومركزية ثقافية يعسر إخفاؤهما. إنه "التسويغ" الثقافي للتوسع والاستيلاء على أراض وخيرات لشعوب في آسيا وإفريقيا يدرك بدرجة من الدرجات أنه مغتصب لها. لذلك كان لا بد من بناء نظرية تسمح "للرجل الأبيض" أن يعي...
قراءة الكل
حين قال أحد كبار الكتاب الإنجليز في القرن التاسع عشر: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا كان يختزل في هذه الكلمة خطاباً استعمارياً ومركزية ثقافية يعسر إخفاؤهما. إنه "التسويغ" الثقافي للتوسع والاستيلاء على أراض وخيرات لشعوب في آسيا وإفريقيا يدرك بدرجة من الدرجات أنه مغتصب لها. لذلك كان لا بد من بناء نظرية تسمح "للرجل الأبيض" أن يعي أن كافة شعوب البشرية ليست سواء. إن الفروق بين الشرق والغرب وبين الأبيض والآخرين لا يمكن تخطيها بأي حال، لذلك فلا مناص من أن يتحمل الأوروبي مسؤوليته في توجيه الآخرين. قدر الجنس الأرقى أن يخوض الصراع متمثلاً المقولة الداروينية في المجال الاجتماعي والثقافي وأن يمارس تفوقه سياسياً وعسكرياً على شعوب بدائية ومعطوبة.ذلك كان شأن المركزية الأوروبية في رؤيتها للآخر عبر مجموعة من الثوابت والطبائع المتناقضة التي لا تسعى إلى التقدم.ضمن جدلية الفعلة ورد الفعل ظهرت في العالم الإسلامي مركزية ثقافية مناهضة ترفض الاندراج في الحضارة المعاصرة اندراجاً تعددياً, إنه النقد الهدّام للغرب والتصدي الصارم لما يعتقد أنه سلسلة من "المؤامرات" التي تستهدف الهوية الإسلامية والخصوصية الثقافية.كيف يتأتى الخروج فكرياً من هذا التناظر بين إيديولوجيتين ثقافيتين تعتمدان نسقاً ثقافياً متعالياً عن بعده التاريخي؟هل من سبيل من تجاوز الطوق الآسر الذي يختزل المكونات الخاصة في كتلة من التصورات تعتبر دائرة الإنتاج بينما ينظر إلى الدوائر الأخرى على أنها هوامش ومجالات تلق؟لقد ظهرت منذ عقدية من الزمن على الأقل محاولات جادة في البلاد العربية الإسلامية تعمل من أجل أن تواكب أنساقها الفكرية مقتضيات اللحظة التاريخية وأن تشق الطريق إلى حوار متكافئ مع الآخر وعن طريق مساءلته معرفياً ومنهجياً.وإذا كانت الأسماء المتعلقة بهذا المشروع قد اختلفت فإن ما يجمع بينها هو ما يمكن أن نسميه الامتلاء الثقافي. يقوم هذا العمل على التواصل مع الثقافات الأخرى بغاية إعادة فهم الذات وفهم الآخر انطلاقاً من أهمية الاختلاف والحاجة الدائمة إلى التعدد والمثاقفة.الكتاب الذي نقدمه اليوم لمصطفى المأمون النيفر يتنزل ضمن هذا التوجه التجديدي الذي لا يتردد في العمل من أجل المساهمة في بناء نسق معرفي ومرجعية منهجية تتجاوز السلطة السابقة في المقدرة والكفاءة.هو رفض لإيديولوجية المركزية الثقافية التي تعتبر أن الحضارة كامنة بالقوة في الموروث الثقافي فلا تحتاج إلا إلى الإحياء. لكنه في نفس الوقت لا يحجم عن اللجوء إلى الإمكانيات الذاتية المتوفرة في المبادئ والعقائد للتوسيع في أفقها الزمني ودلالاتها التاريخية عن طريق قراءة التجارب المعرفية والعلمية للعصر.هذا ما جعل اهتمامات المؤلف تتراوح بين مسائل التراث الفلسفي الإسلامي وقضايا الفكر الإصلاحي والتساؤلات الفكرية الحديثة في أوروبا.لم يكن هذا مجرد اختيار عابر بل قد ساعد المؤلف على خوض غمار هذا العمل التركيبي النقدي بين الذات والأخر تكوين معرفي مزدوج وطني حديث مستفيد من البعدين الشرقي والغربي. يضاف إلى تخصص فلسفي متين تلقاه في إحدى مراكز التكوين الجامعي المتميز في العالم العربي: كلية آداب دمشق قسم الفلسفة وعلى ثلة من أساطينها المؤسسين.