الشعر العربي عهدان طويلان : عهد القدماء ، وعهد المحدثين .ويتميز الشعر العربي القديم بأنه شعر البداوة، نبت في الصحراء ونما وترعرع فيها، فهو وليد الرحيل والتنقل وانتجاع مساقط الغيث. ويتميز أيضا بأنه شعر العصبية وما يتعلق بها من غارات وحروب يفرضها الانتماء إلى القبيلة والذود عن حياضها. كما يتميز بأنه شعر الطبع والفطرة والسليقة يفيض...
قراءة الكل
الشعر العربي عهدان طويلان : عهد القدماء ، وعهد المحدثين .ويتميز الشعر العربي القديم بأنه شعر البداوة، نبت في الصحراء ونما وترعرع فيها، فهو وليد الرحيل والتنقل وانتجاع مساقط الغيث. ويتميز أيضا بأنه شعر العصبية وما يتعلق بها من غارات وحروب يفرضها الانتماء إلى القبيلة والذود عن حياضها. كما يتميز بأنه شعر الطبع والفطرة والسليقة يفيض من القلب ويتدفق من الجوانح . فالشاعر متى تخلجت المعاني في نفسه، وجالت الخواطر بذهنه، سارع إلى التعبير عنها بأقرب الطرق وأوضحها، فهو لا يتكلف قول الشعر ولا يشقى به أو يتأنق فيه كثيرا، وإنما يحرص على المعنى قبل حرصه على اللفظ يصرف همه إلى إخراجه وإبرازه في يسر ووضوح، وقد كانت الصياغة رصينة فصيحة، تتسم بفخامة الألفاظ، وجزالة العبارة، ومتانة التركيب، ووضوح الإشارات، وظهور الحكايات، وقرب المجاز من الحقيقة، تلك - على العموم - حال الشعر العربي طوال العصر الجاهلي والإسلامي والأموي.فلما جاء القرن الثاني وآل الأمر إلى الدولة العباسية تغيرت الأحوال كثيرا، وابتعدت الحياة عما كانت عليه في العهد القديم، وتطورت تطورا كبيرا على الصعيد الاجتماعي والثقافي، بحيث قلت البداوة وخفت وطأتها، واستوطن كثير من الشعراء الحواضر الكبيرة كالكوفة والبصرة وبغداد، وتوطدت الصلات بين العرب وبين الأمم التي دخلت تحت لوائهم، فتغيرت أصول العادات والأخلاق، وظهرت ألوان من السلوك لم تكن معروفة من قبل، وكان هناك تحول ثقافي كبير نجم عن توقد الذهن العربي وتفتحه على ثقافات الأمم المتحضرة.وفي خضم هذا التحول قامت ثورة أدبية كبيرة نادى فيها كثير من الشعراء بضرورة تجديد الشعر العربي وجعله مرآة صافية تعكس الحضارة العباسية الناعمة، ولسانا صادقا يعبر عن المدنية الجديدة الرقيقة.وكان لهذا التحول مظاهر كثيرة أهمها التجديد على مستوى اللغة الشعرية، وقد هز هذا التجديد مفهوم الشعر هزا قويا، ذلك أن جمال الشعر عند القدماء كان يرتكز على صحة المعنى وتحديده وإخراجه في عبارات قوية واضحة رصينة.أما عند المحدثين فإن جمال الشعر لا يرجع إلى ما يقال وإنما يرجع إلى طريقة القول وإبراز المعنى وإخراجه في بيان جميل، يقوم على تخير العبارة وتنميقها، وزخرفتها بأساليب الكلام من استعارة، وتجنيس، وطباق، وغيرها من الألوان التي أطلق عليها مصطلح «البديع».ومن ثم تغير مفهوم الشعر، وأصبح فنا يجري الشاعر فيه وراء جمال اللغة في الصوت، والكلمة، والعبارة، والصورة. وكان هذا على يد طائفة من الشعراء ينتمون إلى مذهب جديد من رجاله : بشار بن برد، وأبو نواس، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، وفي المقابل كانت هناك طائفة أخرى من الشعراء تحتذي القدماء وتصب على قوالبهم، ولا تجدد إلا بمقدار ما يوافق الروح العربية ويلائم الصياغة القديمة. وهكذا أصبح الشعر العربي نوعين متميزين بينهما تفاوت كبير في طريقة التعبير والصياغة ، وقد كان هذا موضع اختلاف بين النقاد، مما أدى إلى قيام خصومة عنيفة بين الاتجاهين الشعريين اللذين تحددت معالمهما وتوطدت أركانهما، فأصبح لكل منهما أتباع وأنصار يذودون عن وجهة نظرهم في عمل الشعر وصناعته.