لا شك أن طريق الهدى محفوفٌ بالتكاليف الربَّانية، التي يهتدي بها العبد إلى الجنة، بَيْدَ أن الطريق طويلٌ ويحتاج لهمة عالية، فهل من مشمر لها؟ ألا مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مَشِيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نَضِيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحُلَل كثيرة، في مقامٍ آبدٍ، في رَحْبةٍ ونضرة،...
قراءة الكل
لا شك أن طريق الهدى محفوفٌ بالتكاليف الربَّانية، التي يهتدي بها العبد إلى الجنة، بَيْدَ أن الطريق طويلٌ ويحتاج لهمة عالية، فهل من مشمر لها؟ ألا مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مَشِيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نَضِيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحُلَل كثيرة، في مقامٍ آبدٍ، في رَحْبةٍ ونضرة، في دُور عالية، سليمة بهية، فكان أول المُشمِّرين للجنة هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفصل بينهم وبينها إلا الموت في سبيل الله، قال الصحابة: ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم (الجهاد وحض عليه)[1]، ويعضد متن هذه الرواية - أي معناها وإن لم تثبت سندًا - ما رُوِي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا سعيد، مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وجبت له الجنة))، فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْها عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض))، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله))[2]. فسورةُ آل عمران من السبع الطوال، وعدد آياتها بلغ المائتين، وتناولت في معظم آياتِها الحديثَ عن أمور عدة، قد يصعب لأول وهلة الربطُ بينها، وبخاصة بين نصفها الأول ونصفها الثاني، بَيْدَ أنه عند التدبُّر يتبين أن جميعَها مترابطة، وتتناسب مع الظرف الذي تنَزَّلت فيه آياتها، وذلك بعد هزيمة المسلمين في غزوة أُحُد، ومن ثَمَّ تجرُّؤ أهل الكتاب عليهم وتحزُّبهم بعد أحد على النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن من أظهرِ أسباب الهزيمة هو العَلاقة الباطنية بين المنافقين وأهل الكتاب، وتزلُّفهم لهم، وموالاتهم من دون المؤمنين، وقد ظهر ذلك في أول اختبار وابتلاء لهم، ذلك أنه لم يكن ببدرٍ منافقٌ؛ لأنها كانت أول غزوة للمسلمين، فلم يَغْزُ فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم غير الصادقين من أصحابه، بينما في أُحُدٍ سارع كثيرٌ من المنافقين للمَغْنَم، بل ورجع عبدالله بن أُبَي بن سلول وانخزل بثلث الجيش[3]. ومن هنا بدا أول ظهورٍ للعَلاقة السياسية والعسكرية - أو المخابراتية - بين المنافقين وأهل الكتاب من جهة، والمنافقين والمشركين من جهة أخرى، والرسول صلى الله عليه وسلم يُربِّي المسلمين، ويُعِيد ترتيب البيت من الداخل، ويُهيِّئ الأجواء والنفوس لاستقبال مرحلة صعبةٍ من أصعب مراحل الدعوة؛ حيث يتعرَّض المسلمين لغزوٍ فكريٍّ من أهل الكتاب، وتثبيطٍ للهمم من المنافقين، ومبارزاتٍ عسكرية من القبائل المجاورة، ومؤامرات من الداخل والخارج، وليس أدلَّ على ذلك من غدر بني لحيان بسبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غداةٍ واحدة، وكانوا يُعلِّمون الناس القرآن وسُمُّوا لأجل ذلك بالقرَّاء.