"... ونمضي... صوب مشرحة الطب الدولي... معقل الموت والأشلاء المجهولة الهوية... معقل الدماء المهدورة عبثاً والأحلام المغدورة.. نمضي... وجهي ملطخ بالطين... روحي موشومة بالبكاء الصامت بعدما أضعت صورتي في زحمة الموتى... تستوقفنا إحدى السيطرات... يبدأ الضابط بتفتيش السيارة ويطلب في النزول... أطالعه بكائي وصوتي المبحوح يقول له: لا تجعل...
قراءة الكل
"... ونمضي... صوب مشرحة الطب الدولي... معقل الموت والأشلاء المجهولة الهوية... معقل الدماء المهدورة عبثاً والأحلام المغدورة.. نمضي... وجهي ملطخ بالطين... روحي موشومة بالبكاء الصامت بعدما أضعت صورتي في زحمة الموتى... تستوقفنا إحدى السيطرات... يبدأ الضابط بتفتيش السيارة ويطلب في النزول... أطالعه بكائي وصوتي المبحوح يقول له: لا تجعل الحيتين تنظران أكثر في ثلاجة الموتى... نريد أن ندفنهما.يغلق باب السيارة ويعيد الأوراق للسائق... هذه بلاد لا تحترم سوى الموت... والموتى... نواصل سيرنا المتعثر لمشرحة الطب الدولي... في الطريق... يفقد الوقت خواصه فتسقط حدوده وننفتح على زمن آخر... زمن لا قيمة فيه لشيء... تتوقف السيارة... وأنزل أمام البوابة... قدماي ترتجفان... يتطلع إليّ السائق بخوف: يمكنك البقاء في السيارة... كلا لندخل... وتدخل... لائحة كبيرة للصور تغطي أحد الجدران... يقول السائق أنها للقتلى المغدورين الذين لا هوية لهم... ندخل ممراً تكرمت على جانبيه الجثث... جثث محروقة بلا ملامح... كأنهم ماتوا في إنفجار ما... أو تحت تأثير حرق ما... تواصل سيرنا حتى تدخل إلى غرفة طويلة تكدست فيها الجثث... وعند إحدى الجثتين... وبخطوات وئيدة أفق عند المثبتين... فيشرق لي وجه سروة بعينين شاخصيتين للسماء ورأس مثقوبة وفم مفتوح... وحازم برأسه المثقوب... وأهوي فوقهما... أقبل رأس سروة وأتمرغ بدمائها التي لم تتيبس بعد... يحرمني السائق والموظف وأخلص منها وأنا استجديها أن يتركاني... أقبلها... أقبل رأسها وأحضنه بعدي... أقبّل يديها الصغيرتين... وأصم صدرها المثقوب إلى صدري... وأبكي حضنها الذي لن يضم طفلها... وأبكى الطفل الذي لن يرى حضنها طوال حياته... وأبكي يتيمى الذي تغبر أنهاراً من دمع ونجيب... أعاد وضمها إلى إنتحابي... رأيتهم كيف يضعون جسد سروة وحازم في سيارة حمل تبعتنا... قلت للسائق يصوت لا يكاد يسمع أرجوك دعني أصعد معهما... دعني أغطيها بمعطفي هذا أرجوك...توقفت السيارة وأخذ بمعطفي وصعد به إلى سيارة الحمل وراح يوسد حثتيها... تسرب الدفء إلى روحي.. مضت السيارة بنا تتبعنا الجثتان كنا نشق طريقنا بصعوبة... كان الحيوان يلوّحان لهما تلويحة الوداع... والطفل بين ذراعي... يغفو في حضني... ولا تجرؤ (الغزيلة) على إخباره بأن أمه ماتت... بأن أبويه أرادا أن يستخرجا له شهادة ميلاد فأخرجوا لهما شهادة وفاة مختومة بالرصاص...عبرنا بوابة بغداد... بوابة المجهول والخوف... التي ظلت تشرع أبوابها بوجه قادمين... قد لا يعودوا بعدما ابتلعتهم في ظلمه رحمها... وعائدين... لم يعودوا يحلمون بالرجوع إليها... بعدما شيعتهم أحياء... وأمواتاً... في العراق الذي نزرع أحقاداً... أثمرت تلك الأحقاد موتاً حصد ويحصد بشراسة أجناءه دون تمييز...تحاول الروائية تصوير هذا الواقع المأساوي فيشيع ذلك مناخات حزينة، وتتابع المشاهد الحياتية ويسير الموت جنباً إلى جنب مع الحياة والحب مع الكراهية... ووافدون على الحياة ومغادرون... وعراق يشهد مع بزوغ كل فجر مأساة مروعة تودي بحياة أبنائه... ويتامى وثكلى وفارّون من جحيم الموت... ومع هؤلاء تنبت قصص وحكايات في طياتها آمال وآلام شعب لا يدري مصيره.يذكر أن الرواية حازت على جائزة "دبي الثقافية للإبداع العربي" عام 2011، بالإضافة إلى فوز الكاتبة بجائزة نازك الملائكة في القصة القصيرة التابعة لوزارة الثقافة العراقية.