نبذة النيل والفرات:ولد" بترو ديللافاليه "صاحب هذه الرحلة في أسرة رومانية عريقة. منذ نعومة أظفاره شغف على اكتساب العلوم المختلفة، واستهوته الموسيقى، ومارس التمثيل المسرحي، وأتقن فنون الفروسية كما تتطلبها حالته الأرستقراطية. وعندما شب قرر الهرب من المجتمع المخملي الزائف، والابتعاد عن وطنه والتنقل في بلاد الله الواسعة، ليعبر عن سخط...
قراءة الكل
نبذة النيل والفرات:ولد" بترو ديللافاليه "صاحب هذه الرحلة في أسرة رومانية عريقة. منذ نعومة أظفاره شغف على اكتساب العلوم المختلفة، واستهوته الموسيقى، ومارس التمثيل المسرحي، وأتقن فنون الفروسية كما تتطلبها حالته الأرستقراطية. وعندما شب قرر الهرب من المجتمع المخملي الزائف، والابتعاد عن وطنه والتنقل في بلاد الله الواسعة، ليعبر عن سخطه على الحياة وتبرمه بمحيطه الزائف، مقتدياً بمغامرات الأقدمين الذين طعنوا في عواطفهم، فارتحل أولاً إلى نابولي، واجتمع هناك بصديقه الأديب والشاعر ماريو سكيبانو. وعرض عليه حالته النفسية ورغبته بالسفر، فشجعه في الحال، واقترح عليه أن يجعل لسفره غاية أدبية وهدفاً علمياًن، فيكتب مشاهداته ويسجل انطباعاته عن الأماكن التي يمر بها والشعوب التي يختلط بها، وطلب منه أن يرسل إليه ما يكتبه بصورة "رسائل" ووعده بأنه سيجمع المعلومات الواردة في تلك الرسائل وينقحها ويصوغها في كتاب يخلد اسمه.أمضى ديللافاليه خمسة أعوام في نابولي وهو يستعد للرحيل وقد أغنته الأعوام بالمعارف الإنسانية، وفتحت له آفاقاً جديدة باتجاه الشرق، وخلال تلك الفترة تجول في جنوب إيطاليا ورحل إلى جزيرة صقلية.ثم عاد إلى روما وانتقل شمالاً إلى البندقية ليبحر منها إلى الشرق فركب البحر في 8 حزيران 1614 ووجهته اسطنبول. وأمضى في عاصمة الخلافة فترة انهمك فيها بدراسة اللغة التركية لأنه كان معجباً بها رغم كونه يبغض الأتراك بغضاً شديداً نابعاً من ترسبات اجتماعية ودينية عميقة.كان بود "ديللافاليه" التوغل شرقاً انطلاقاً من اسطنبول، وإذ رأى في ذلك بعض المحاذير فقرر تغيير وجهته، وتأجيل زيارته لبلاد فارس، لذلك سافر في 15 أيلول 1615 إلى مصر حيث زار آثار الفراعنة ودخل إلى الأهرامات وصعد إلى جبل سيناء، ثم حج إلى بيت المقدس فحقق أمنية عزيزة على نفس بأن يصبح حاجاً "مقدسياً" ومنذ ذلك الحين اتخذ لقب المقدسي" بيترو ديللافاليه".انتقل إلى حلب للتوغل شرقاً، وهناك حدث ما غير خططه وقلب مجرى حياته، فقد التقى في الشهباء برجل إيطالي عائد من بغداد حدثه عن فتاة بغدادية رائعة الجمال، عالية الشمائل لائقة بالنبيل الروماني. وهكذا قرر السفر إلى بغداد ليلتقي بتلك التي ملكت عليه مذاهبه.وفي بغداد تحققت أمنيته، فتقدم طالباً يد الفتاة العراقية "معاني بنت حبيب جان جويريدة". فيتم الزواج، ولعل أجمل صفحات الرحلة من الناحية الأدبية هي تلك التي يصف فيها حبه لمعاني وفرحه بالزواج منها.لكن الحظ العاثر أبى أن يفارقه، فقد توفيت معاني ضحية الملاريا، فأوحى إليه حبه أن يحمل رفات الحبيبة إلى روما ليواريها الثرى في ضريح أجداده. فقرر تحنيطها بطريقة بدائية.أربعة أعوام والجثة المحنطة ترافقه من مكان إلى آخر، في بلاد فارس والهند والبحر العربي والعراق وسوريا، ولم يهدأ باله إلا بعد أن أوصلها إلى روما وأنزلها بيديه في ضريح الأسرة بين والديه، في واحدة في أجمل كنائس روما وأقدامها، كنيسة مريم العذراء، على مرتفع أراجيلي في قلب المدينة.ألا توحي هذه الرحلة وأحداثها قصة ميلودرامية تروي تاريخ العراق في الربع الأول من القرن السابع عشر والصراع بين العراق وفارس ومحاولة هؤلاء السيطرة على العراق وموقف العراقيين ضد الأطماع الفارسية.وكما وعد صديقه الطبيب "ماريو"، أخذ يكتب من كل مدينة يحل بها رسالة مطولة، فيها وصف مسهب للمناطق التي زارها والناس الذين التقى بهم، ويدل وصفه على سعة إطلاعه وتمكنه من المصادر القديمة فهو يذكر المؤرخين السالفين مثل هيرودوتس وزينوفون ويورد أبياتاً من الشعر الكلاسيكي اللاتيني ويأتي على ذكر آيات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.كانت الرسائل الأولى غزيرة المادة وافية الشرح ثم قصرت بعد وفاة زوجته لتصبح جافة شحيحة، ثم عادت إلى ما كانت، لكنه أكثر من الوصف الخارجي هذه المرة دون التعليق العلمي على مشاهداته. وهكذا فقد بلغت عدد الرسائل التي كتبها أربعاً وخمسين رسالة كتب الأولى في 23 آب 1614 من اسطنبول، والأخيرة من روما بتاريخ 1 آب 1626..