لم يكن المكان موحشا ، بل ترى القبور مزهوة بما تحمل في جوفها ...وتلك الأشجار الباسقة التي تظللها بظلالها الوارفة تحنو عليهم من حرارة الشمس الحارقة ...لم يكن المكان كئيبا ...كان روضة من رياض الجنة فوق الأرض، ارض الشهداء ..عندما أرى تلك الخضرة والورود الزاهية أرى الشواهد تعلو بينها وعليها أسماء غالية على قلوبنا...كأنها منقوشة بالذه...
قراءة الكل
لم يكن المكان موحشا ، بل ترى القبور مزهوة بما تحمل في جوفها ...وتلك الأشجار الباسقة التي تظللها بظلالها الوارفة تحنو عليهم من حرارة الشمس الحارقة ...لم يكن المكان كئيبا ...كان روضة من رياض الجنة فوق الأرض، ارض الشهداء ..عندما أرى تلك الخضرة والورود الزاهية أرى الشواهد تعلو بينها وعليها أسماء غالية على قلوبنا...كأنها منقوشة بالذهب كلما لمعت أحرفها على نور الصباح ..ولمسات ضياء الشمس المشرقة في عهد الحرية ...ثم عزمت ...عزمت على الجلوس بردهة من ذلك المكان ... وأنا أترنح من فرط التعب...ليس تعبا جسديا بقدر ما هو تعب نفسي ..اشعر بالروح مرهقة ...وللتوحد مع الذات محتاجة مع هذا الحزن الذي سيطر على روحي الصارخة ...لم يكن عاديا بل تمادى بعدد السنوات والأشهر والأيام، بل بعدد الساعات واللحظات التي عشناها بكهوف الاستعمار المظلمة... حينها هممت بالجلوس مشيرة لباديس أن يأخذ بيدي لمساعدتي على ذلك ...وأنا أطلق تنهيدة عميقة حملت معها صورا من الماضي تهدهدها نغمات الناي التي كانت تتعالى في الأجواء ...وأنا طفلة بعمر ثماني سنوات على ما أذكر أو أكثر بقليل...فلم يكن أهالينا يقيدوننا على دفتر الولادات عندما نولد ...وكان وجودنا مثبت بأجسادنا الصغيرة التي تدب فيها روح الحياة ...وصرختنا الأولى مع أول أوكسجين يجد طريقه في رئتينا الصغيرتين ... فـلا حاجــة لنا لإثبات الــذات بالأوراق أو تلك الوريقــــات لنقول نحن هنا ... وكان عمرنا يعرف آنذاك بمدى النضج الذي نصل إليه ...كنت أشعر بالسعادة الغامرة ورنين الناي يعلو مـعــانـقـا مســامعـي مـعـلنــا سـر وجـود المـاضـي على صفحـة الحاضــر في قـــارب الذكــــريــات ... لأرحـــل مع نـغـمـاته عبـر الزمـن إلى فترة الويلات والنوائب ... فترة القادم من الغرب ... ليثكلنا أرضنا... وأبنائها... ويلون سمائها قتما ضاربا... رحلت مع تلك النغمات إلى حيث جـلس جـدي العربي الطـاهر عـلى صخـرة كبيرة أعلى الرابية وأنـامله تـدب فيها الحياة بحـركة سحرية متنقلة على ثقوب الناي كأنها محمومة أو مسحورة تصنع أحلى النغمات... وأرق النـوتات في تنـاغـم مستـمــر تنقــر طـبلـة أذنـــي كان بارعا في العزف عليه ... كأنه يرتشف فنجان قهوة الأيام ، مع كل قطرة تفوح رائحتها تذهب هموم من استنشقها ، وتذهب عنه عناء العمل في مزارع الكولونيل جيرار .....