الكتاب من تحقيق الدكتور علي محي الدين القره داغي.تبحث هذه الرسالة القيمة عن كل ما يدور حول كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" إعراباً وفهماً وإشارة ومعنى. فهي تدور في فلكها، وتتعلق بمعانيها، وتكشف أسرارها وخفاياها ودقائقها، وتحمل في طياتها إشارات لطيفة حولها، وبين ثناياها أفكاراً مبتكرة، ونفحات طيبة أفاض بها الإمام الجليل المتبحر ف...
قراءة الكل
الكتاب من تحقيق الدكتور علي محي الدين القره داغي.تبحث هذه الرسالة القيمة عن كل ما يدور حول كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" إعراباً وفهماً وإشارة ومعنى. فهي تدور في فلكها، وتتعلق بمعانيها، وتكشف أسرارها وخفاياها ودقائقها، وتحمل في طياتها إشارات لطيفة حولها، وبين ثناياها أفكاراً مبتكرة، ونفحات طيبة أفاض بها الإمام الجليل المتبحر في أكثر العلوم بدر الدين الزركشي إفاضة نورانية في ليلة واحدة. أقلقه فيها رائد الفكر، وتشعبات النظر، لم يكن له فيها سمير غير القلم والسراج، ولا أنيس غير الفكر الوهاج، الذي اشتد بحره بالأمواج، لكن استقرت به إلى ركن شديد من العلم وقوة البصيرة، فبقي يعيش مع "لا إله إلا الله" في هذه الليلة المباركة، التي سار فيها من عالم الأنظار إلى عالم الحقيقة والاستبصار، فلم يكن الصبح قد تنفس وأشرق حتى أعلن بالابتهاج والبشرى بظهور أشرف نتاج، وهو هذه الرسالة القيمة التي تحلق بها في أجواء العلوم الإسلامية. فجال في جناتها جولات واسعة، وتعايش معها حتى انصهر فكره في بوتقة معاني كلمة التوحيد، فاقتطف ما يحلو له من كل حديقة وردة، واختار من كل شجرة ثمرة، ثم نسقها تنسيقاً بديعاً، فأينعت ثماراً شهية تلتذ بها النفوس ولا تمل منها القلوب.والحق إنها رسالة قيمة من حيث الشكل والمضمون، وعزيزة من حيث التوسع في العلوم والدقة والأسلوب. رتبها الإمام الزركشي على تسعة وعشرين فصلاً كلها يتعلق بـ"لا إله إلا الله" من جميع جوانبها، فقد تناول فيها كل ما يتعلق بها من قضايا نحوية ولغوية وبلاغية وأصولية وكلامية ومنطقية وغيرها من إشارات ولطائف.فذكر إعراب "لا إله إلا الله"، فمعنى "لا" وإعرابها، والأحكام التي تتعلق باسمها -وهو "إله"- وسبب بنائه. ثم بين أن "لا" النافية للجنس تخالف "إن" ولا" التي تعمل عمل ليس من عدة وجوه، وقد استشهد في كل ذلك بأقوال كبار النحاة وأشعار العرب. ثم تدرج إلى آراء العلماء حول تقدير خبر "لا" هل هو مقدر أم مستغنى عنه؟، فانتهى إلى أن الأحسن التقدير، ثم عرج إلى الكلام حول "إلا" هل هي للاستثناء أم بمعنى غير، ثم بعد الاستشهاد بأشعار العرب رجح كونها هنا للاستثناء.وبعد ذلك يحلق بنا الزركشي في معاني سامية، فيبين سبب تقديم النفي على الإثبات في كلمة "لا إله إلا الله" بأنه لتفريغ القلب من الأغيار، وليستعد استعداداً تاماً للامتلاء بنور الله تعالى وتوحيده. ثم زادنا علماً ودقة فبين السبب في كون حروف "لا إله إلا الله" كلها جوفية، كما بين السبب في أن حروفها كلها ليس فيها حرف معجم -أي ذو نقطة- للإشارة إلى التجرد عن كل معبود. ثم بين أن صيغتها الجامعة بين النفي والإثبات للدلالة على حصر الإلهية لله تعالى وقد أبدع في المناقشة والرد وظهرت فيهما قوة دليله وحجته، وقدرته البالغة في الرد والنقاش.ثم عاد الزركشي فبين الفرق بين "ما من إله إلا الله" وبين "لا إله إلا الله"، بأن الأخيرة دلالة وأقعد نفياً واستغراقاً ولهذا اختيرت. كما بين أن استغراق المفرد مثل: "لا إله" أكثر تناولاً لأفراد المسمى من استغراق الجمع، وبرهن على ذلك بالآيات الكريمة وأقوال الأئمة المعتبرين.ثم صعد نحو لفظ "إله" بأنه نكرة في سياق النفي فتعم بلا شك، وهنا أتى بأمر دقيق جداً وهو أن قولهم: النكرة في سياق النفي تعم ليس على إطلاقه، بل استثنى منها صورتان، فبينهما وذكر سبب استثنائهما، كما رد رداً بديعاً في قولهم: إن النكرة في سياق النفي تعم بدلالة الالتزام. كما رد رداً بليغاً على جماعة من الأصوليين في قولهم: إن النكرة في سياق الإثبات لا تعم. ثم برهن بالدلائل على أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي.وبعد ذلك تطرق إلى أن اسم "الله" تعالى علم لذات الواجب الوجود، وأنه بمثابة العلم، وأنه هل هو مشتق من شيء، أم منقول أم مرتجل؟ وأن الألف واللام أهما أصليتان، أم زائدتان لا زمتان؟ ثم أفاض في ذك خواص اسم الله تعالى، وبعد ذلك دخل في الخلاف المشهور بين أهل السنة والجماعة، وبين المعتزلة حول الاسم والمسمى ورجح الفرق بينهما. ثم ذكر أنواع أسماء الله تعالى الثلاثة عند الشيخ أبي الحسن الأشعري، ثم ذكر رأي القاضي أبي بكر الباقلاني وغيره في أن أسماء الله تعالى توقيفية لا تؤخذ بالقياس. ثم عاد إلى القضايا اللغوية فذكر الفرق بين "لا" و"لن" ثم ذكر رأي بعض أهل البيان في الفرق بينهما.وهكذا الإمام الزركشي يحلق بنا في عالم كلمة التوحيد ويسبح بنا في جولات فكرية عميقة، ويذكر لنا كل ما يتعلق بها من مختلف العلوم والفنون. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما كان الإمام الزركشي يتمتع به من الرسوخ في مختلف العلوم والفنون، والقدم الثابت في التحليل والنقاش والرد، وهذا ليس غريباً على علمائنا السابقين فكل واحد منهم موسوعة في أكثر العلوم.