لم ينشغل صاحب هذه الأوراق بماهية ما كتبه، وإذا ما كانت سيرة ذاتية أم مذكرات أم مجموعة من الاستعادات الواعية لمفاصل معيّنة كانت في نظرة المحطات الأهم في (رحلة العمر) التي بدأها عام 1931، وها هو يدوّن بؤرها الموزعة على سبعين عاماً حفلت بالكثير من "الصعود النزول" بحسب تعبيره. إنها ذلك كله، إذا ما اعتمدنا التعميم، لكنها في الوقت نفس...
قراءة الكل
لم ينشغل صاحب هذه الأوراق بماهية ما كتبه، وإذا ما كانت سيرة ذاتية أم مذكرات أم مجموعة من الاستعادات الواعية لمفاصل معيّنة كانت في نظرة المحطات الأهم في (رحلة العمر) التي بدأها عام 1931، وها هو يدوّن بؤرها الموزعة على سبعين عاماً حفلت بالكثير من "الصعود النزول" بحسب تعبيره. إنها ذلك كله، إذا ما اعتمدنا التعميم، لكنها في الوقت نفسه، تتعدى ما هو شخصي خاص بصاحب هذا التدوين، لتشتمل المحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي عاشه وتحرّك وفق شروطه وإملاءات ظروفه.لذلك فإن الاجتهاد القائل بأنّ ما سوف نقرأه إنما ويمثل حاضناً صادقاً لذاكرة المجتمع-البلد- الوطن ليس اجتهاداً مبالغاً، وخاصةً إذا ما وضعناه في سياق علاقة التلاحم غير القابلة بين الفرد من جهة... والمجتمع من جهة أخرى. وهكذا، أو انسجاماً مع منطق تلك العلاقة، فإنّ الجهتين تأتلفان في جهة واحدة لنقرأ في أفقها الوسيع والمديد قصة مجتمع وهو يعبر أهم مراحل تحوّله باتجاه التبلور واكتساب الملامح المدينة.نحن هنا إزاء الامتحان الذي واجهه جيل الرواد: جيل البناة، أبناء البلد الذين انطلقوا من نقطة الصقر تقريباً بحسب المعطيات العامة، آخذين على عاتقهم وكواهلهم مهمة النهوض بأنفسهم وبمجتمعهم وليس في جعبتهم حيال هذه المهمة المزدوجة سوى الحلم... والإدارة. ولأن الأمر وقف هذه الرؤيا، فإن الانخراط في العمل السياسي يبدو بمثابة الخبر الصادق "لمبتدأ" صحيح: فالفعل السياسي الذي يؤديه الفرد لا يكون فعلاً عشوائياً أو مزاجياً ما دامت الغاية منه تغيير الشروط المتحكمة بحركة المجتمع واتجاهها لصالح الإنسان، بالمدلول المشير إلى أنه "مواطن" يطمح إلى العيش في "وطن" أفضل.وكذلك وليكون الوطن يحتضن الجميع، بشتى تصنيفاتهم الخارجية، فإنّ صاحب هذا التدوين لمي يخفي مسيحيته إلا ضرباً من ضروب تعددية الوطن أكبر "العربي" وإثراء له. فكان عروبياً قومياً ملتزماً يحترم خصوصية القطر بما لا يعني سوى كونه عضواً من أعضاء التكوين الأشمل.وفق هذا المنظور تدرجت مراحل أو محطات وهذان عريس العملية، فكانت خروجاً من قطرة الأردني صوب مجموعة أقطار عربية، الهدف منه تقديم الخبرة المتخصصة من أجل تشييد البنى التحتية فيها. إضافة غلى مواكبته للثورة على الاستعمار في جنوب اليمن، ومساهمته من ثم في بناء مرافق البلد المدنية، إن قراءة متأنية لهذا الكتاب كفيلة بتوفير أكبر قدر من الانسجام يمكن للقارئ أن يعثر عليه في كاتب كان معتقلاً في اختياراته، وعنيداً عند اجتيازه لـ "امتحان" المرارة، ومنتقلا من غير تأفف للـ"الثمن" الواجب دفعه جراء سعيه لتحقي "الحلم" في ارض نظيفة لإنسان حر.