عني المؤرخون المسلمون الأقدمون عناية كبيرة بوضع التصانيف البلدانية: من معجمات ورحلات ومسالك وخطط وخوارط ومصورات، تناولوا فيها بالوصف والتخطيط أقاليم العالم المعروف في أيامهم، فلم يدعوا شاردة ولا واردة وقعت إليهم بالمشاهدة وبالسماع والنقل إلا دونوها في أسفارهم فخلوا لنا بذلك ثروة علمية ثمينة صارت مرجعاً أساسياً لمن يبحث في جغرافي...
قراءة الكل
عني المؤرخون المسلمون الأقدمون عناية كبيرة بوضع التصانيف البلدانية: من معجمات ورحلات ومسالك وخطط وخوارط ومصورات، تناولوا فيها بالوصف والتخطيط أقاليم العالم المعروف في أيامهم، فلم يدعوا شاردة ولا واردة وقعت إليهم بالمشاهدة وبالسماع والنقل إلا دونوها في أسفارهم فخلوا لنا بذلك ثروة علمية ثمينة صارت مرجعاً أساسياً لمن يبحث في جغرافيا البلاد الإسلامية وغيها، من الوجهة العمرانية والتاريخية والاقتصادية والخططية. ولا ريب في أن عناية الأولين بهذه الموضوعات، كابن حوقل، والمقدسي، وياقوت، إنما كانت صفحة من صفحات النهضة العلمية التي ازدهرت منذ صدر الدولة العباسية. وحين بدأ اهتمام الغربيين ببلاد الشرق رأينا منهم من قصد هذه الديار مستطلعاً حال بلدانها وآثارها دارساً لغاتها وتاريخها. فصنفوا في ذلك الكتب وكتبوا المقالات ووضعوا الخوارط، ومنهم من وجه همه إلى مخلفات أولئك المصنفين الأقدمين، فأقبلوا عليها يتدارسونها وكانت يوم ذاك مخطوطات تفرق شملها في خزائن كتب العالم، ويحققونها وينشرونها بالطبع وينقلون بعضها إلى لغاتهم. ومنهم من انصرف إلى التأليف في الجغرافيا التاريخية للبلدان الإسلامية بلغته، مستمداً مادة بحثه من أولئك وهؤلاء جميعاً. ولعل في طليعة من يذكر من علماء هذا المصنف الأخير البحاثة الإنكليزي المشهور كي لسترنج، مؤلف هذا الكتاب الذي بين يدينا والذي حوى بين دفتيه صفة الأقاليم الإسلامية من الفرات غرباً حتى أقصى ما بلغته الدولة العباسية في أواسط آسيا شرقاً. وهو إلى ذلك كثيراً ما تناول زمناً تقدم عصر هذه الدولة وتأخر عنه استيفاء للموضوع الذي يعالجه. وقد رجع في كتابه هذا إلى أمهات التآليف البلدانية والتاريخية. وقد جعل المؤلف لكتابة هذا خوارط عديدة استند في وضعها إلى الخوارط الجغرافية الحديثة وأثبت فيها التسميات القديمة حسبما هداه إليه علمه، ودله عليه بحثه. فذكر في هذا الخوارط أشهر كور الأقاليم الإسلامية ومدنها وقراها وأنهارها، مبيناً ما كان يتخللها من مسالك، ثم أن المؤلف فيما نقل كان أمنياً من النقل حريصاً لم يتردد قط في أن نيوّه بالمرجع الذي استقى منه وبزمنه كلما نقل منه. والمؤلف على ما سيرى القارئ متمكن من موضوعه خبير بدقائقه، مطلع على أصوله وفروعه يتنقل فيه تنقل العارف. وليس أدل على ذلك من تصانيفه الكثيرة في هذا الباب.