أعترف .. أنني تصديت لمهمة صعبة، عندما قررت البدء بهذا الكتاب، قبل عام واحد من وفاة البابا شنودة، فاذا به يخرج للنور بعد سنة من رحيله !! استغرقت عامان كاملان في كتابة هذه الصفحات التي تحملها بين يديك، يتوسطهما الحدث الجليل، وأقصد جنازة القرن كما يطلقون على يوم رحيل البابا شنودة الثالث. كان من المقرر أن أنتهي من الكتاب أوائل مارس ...
قراءة الكل
أعترف .. أنني تصديت لمهمة صعبة، عندما قررت البدء بهذا الكتاب، قبل عام واحد من وفاة البابا شنودة، فاذا به يخرج للنور بعد سنة من رحيله !! استغرقت عامان كاملان في كتابة هذه الصفحات التي تحملها بين يديك، يتوسطهما الحدث الجليل، وأقصد جنازة القرن كما يطلقون على يوم رحيل البابا شنودة الثالث. كان من المقرر أن أنتهي من الكتاب أوائل مارس 2012، على أن أختمه بلقاء مطول مع البابا شنودة في الدير.. هناك في مكانه المحبب بوادي النطرون حيث بدأت رحلته مع الرهبنة.. فاذا بي انتهي من الكتاب بالفعل قبل وفاة البابا بأيام، ويشاء القدر ألا يتم الحوار الأخير مع البابا وأن تكون السطورالأخيرة في الكتاب هي وصف زحف الملايين من المصريين ..من المسلمين والمسيحيين خلف نعش البابا في رحلة وداعه الى مثواه الأخير !! وأعترف أنني كنت كرجل أسقطوه في قلب المحيط وأمروه بالغوص فيه شرقا وغربا، طولا وعرضا .. فكلما غصت في التعرف على الرجل، كلما أشفقت على نفسي من الكتابة عنه رغم أن حرفتي الوحيدة هي الكتابة، فمشكلة الكتابة عن شخصية بحجم البابا شنودة هي كيفية عمل عصير لذيذ من آلاف المعلومات التي عرفتها عن الرجل الذي قضى أكثر من 40 عاما يقود الكنيسة القبطية بكل عنفوانها وقوتها في أدق وأصعب وأهم مراحل تاريخها العريق !! رجل بهذا الاتساع العلمي والمعرفي والأفق الفكري .. وبهذا الحجم من العلاقات والخبرة وتعدد المواقف .. كلما بحثت في جوانب شخصيته وجدته قمة متفردة في كل منها.. فهو البابا الذي لم يستطع سياسيا داهية في وزن الرئيس الأسبق أنور السادات أن يراوغه ويحجمه داخل أسوار الدير، بل على العكس اتسعت في عهده الكنيسة القبطية أكثر مما كانت عليه. لكن هذا الاتساع تمدد في عهد الرئيس السابق حسني مبارك الذي ناوره أيضا البابا شنوده وتماهى ظاهريا مع سياساته على اعتبار أن السياسة هي فن الممكن للحصول على الحد الأقصى من المكاسب ، فاتسعت الكنيسة القبطية في الداخل والخارج كما لم تتسع من قبل، بل أصبحت كنائسها هنا وهناك بمثابة سفارات دينية أو امتدادا لسلطة الكنيسة خارج الحدود.وشنودة الثالث هو البابا الذي تحاور مع العالم شرقا وغربا وقابل كبار الساسة شمالا وجنوبا لخدمة قضايا الوطن والعروبة، منطلقا من وطنية جارفة ومصرية مطلقة وعروبة خالصة ، بشخصية ذكية متزنة، مرنة ومتعلمة، واثقة من نفسها لأبعد مدى. قال عنه أديبنا الكبير نجيب محفوظ: "لقد كان البابا شنودة الثالث دائما رجلا صلبا متفائلا .. شديد الذكاء ، مصريا عميق الأصالة ، عربي الوجدان والتوجهات ، انساني النزعة ، عالمي الأفق" ورغم كل ذلك .. لم يكن أبدا يتميز بالجهامة أوالعبوس أو الغلظة أو الجدية المفرطة .. بل على العكس كان بشوشا .. سريع البديهة وكان أحد كبار الظرفاء من أبناء ذاك الجيل الذي كان يجيد "حبك القفشات" وكان شاعرا أديبا وصحفيا بارعا ، يجيد عدة لغات ويتكلم الانجليزية بطلاقة أهلها وكان يستطيع التحدث بها لعدة ساعات في تخصصات مختلفة دون خطأ واحد. والمثير أنه كان يتمتع بذاكرة حديدية حتى آخر أيامه وقدرة فائقة على التنظيم والادارة رافقته منذ سنوات شبابه الأولى ، اضافة الى ثقافة واسعة في مجالات شتى مكنته من التدفق اذا تكلم .. فلا يفيض بالفعل إلا من امتلأ !! والعجيب أن أزمات كثيرة هادرة قد واجهته في حياته .. كانت أي منها قادرة على كسر أقوى الرجال كما سنرى في الكتاب .. فخرج منها جميعا منتصرا مرة بالكياسة وأخرى بالهدوء وثالثة برباطة الجأش والشجاعة.لقد غزلت هذه السطور عن حب واعي وايمان حقيقي بأن نهرالنيل والتماسك الاجتماعي هما ما يصهر ويصنع سبيكة هذا الشعب الذي صمد آلاف السنين أمام المحاولات المستمرة لتفتيت وحدته والنيل من قوته ، وهو ما نعول عليه في مستقبل هذا الوطن وبقاء أبناءه. كتبت قصة حياة البابا شنودة منسوجة بأهم أحداث الوطن .. حاولت أن أرسم ملامحه الانسانية والكشف عن جوانبها الخفية فضلا عن شخصيته الدينية ومكانته الوطنية.. بمعنى آخر بحثت هنا عن البابا ليس رجل الدين فحسب .. بل أيضا البابا الانسان فكان بالفعل .. رجلا أسطورة !!