لئن كان القرآن الكريم وحيا من الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية التي اختيرت لإمامة البشرية وهدايتها والشهادة عليها، فلا بد أن يسري نوره في جسدها كله لا يدع فيه عضوا إلا بعثه من موات أو نبهه من غفلة، أو هداه وأنقذه من تيه وضلال، لذلك تتوالى سوره وآياته تتناول بالبناء والتحصين جسد الأمة في أدق جزئيات تكوينه المادي والنفسي والمعنوي، ...
قراءة الكل
لئن كان القرآن الكريم وحيا من الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية التي اختيرت لإمامة البشرية وهدايتها والشهادة عليها، فلا بد أن يسري نوره في جسدها كله لا يدع فيه عضوا إلا بعثه من موات أو نبهه من غفلة، أو هداه وأنقذه من تيه وضلال، لذلك تتوالى سوره وآياته تتناول بالبناء والتحصين جسد الأمة في أدق جزئيات تكوينه المادي والنفسي والمعنوي، فلا يكاد يتم تنـزيله متلوا إلا وقد قام في حياة الناس قرآنا يسعى في البيت والشارع والمؤسسة والدولة. نلحظ هذه الميزة كلما أوغلنا في القرآن الكريم متتبعين آياته وسوره مستقرئين منهجه في بناء الأمة الإسلامية بناء متكاملا لا يدع خللا إلا سده، ولا نقصا إلا أتمه، ولا عيبا إلا أصلحه ولا ساحة من ساحات الحياة إلا غشيها وسكب عليها من نوره وعبق عطره ولذاذة وِرده ومتانة مأخذه. ولئن تناول المنهج القرآني في سورة البقرة سبل إعداد الأمة الإسلامية للاستخلاف والإمامة تصورا إيمانيا واضحا، ومنهج حياة كريمة، ونظام مجتمع رشيد، ثم تناول في سورة آل عمران بالتوضيح والبيان أركانَ الحصانة في الأمة وعُمُدَ مناعتها وأسس قواعدها، وسنام فسطاطها، فإنه في سورة النساء قد تغلغل في أعماق عماقالمجتمع الإسلامي أفرادا وأسرا وعلاقات وتشريعات تحفظ الأمة من أي انهيار ذاتي أو انهدام داخلي تسببهما بقايا من جاهلية كامنة، أو اتصال غير واع بمجتمعات ضالة. والسورة بذلك لبنة لا بد منها لمواصلة البناء، وبلسم ضروري للوقاية والاستشفاء، وحلقة متينة في المنهج القرآني وثيقة الصلة بما سبقها وما تلاها من الوحي الكريم، محورها حماية الفرد والمجتمع والدولة من تَغَوُّل الفرد والمجتمع والدولة، فلا تطغى جهة على جهة، ولا يستضعف أحد أحدا، من أجل قيام أمة للعدل والإحسان والإنصاف، غير قابلة للظلم، عصية على الانظلام والاستضعاف، وغير خفي أن تسميتها بسورة النساء أو بالسورة التي تذكر فيها النساء، إشارة واضحة إلى كون المرأة على شرف مكانتها وأهميتها في المجتمع البشري كانت ولا تزال مثالا لمظلومية الأعراف البشرية والتشريعات الوضعية والاستغلال الفاحش الناتج عن طغيان الرجل واستعلائه بالقوة والجراءة على الظلم وفحش القول والفعل، لذلك عنيت هذه السورة الكريمة بكل ما له صلة بالاستضعاف، ومن ذلك ورود ذكره فيها دون غيرها من سور القرآن الكريم تصريحا وتلميحا، شجبا وتنديدا وتحذيرا. إن آفة الاستضعاف ثمرة شيطانية لآفة القوة الهوجاء غير المنضبطة بالعقل والدين والأخلاق السوية، سواء كانت هذه القوة مادية أو معنوية أو فكرية أو سياسية أو اجتماعية، منذ استقوى إبليس لعنه الله بشيطنته على آدم واستدرجه للأكل من الشجرة ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ الأعراف 20/21، واستقوى أحد ولدي آدم على أخيه فقتله، واستقوى بنو إسرائيل على الأنبياء فقتلوا بعضهم وطاردوا آخرين، واستقوت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم فاضطهدوا أتباعه وكادوا يقتلونه. وعلى مدار المسيرة الإنسانية في الأرض تدور المعركة بين الاستضعاف والاستقواء، بين المستضعفين والمستكبرين، من الزوج الطاغية والزوجة الضعيفة المستكينة، والزوجة المتسلطة والزوج المسالم الطيب، والأب المستهتر الجبار الأناني والبنت الضعيفة المستسلمة الموؤودة، إلى المرابي الذي يستغل حاجات الناس وضائقتهم فيأكل أموالهم بالباطل، والقوي بعصبته وعصابته الذي يغتصب الحقوق ويجحد الأمانة ويقطع الطريق، ويغتصب الأعراض، إلى الحاكم المتجبر الذي يستخف شعبه ويجعله بين قيد وسوط ومشنقة ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص4/5].