هذا معجم ثقافي جامع لشتى ألوان المعاني التي يتداولها الناس ويتعاورونها بينهم، في شتى أغراضهم ومناحيهم، ومثاقفاتهم ومحاوراتهم، وسائر أسبابهم؛ولقد أسماه مؤلفه الذخائر والعبقرياتولهذا المعجم وتأليفه قصة يرويها المؤلف فيقول: أن وزارة المعارف المصرية كانت قد أعلنت رغبتها مذ سنيات، في أن يختار من يرتغب من الأدباء، أيما أحب إليه من تلك...
قراءة الكل
هذا معجم ثقافي جامع لشتى ألوان المعاني التي يتداولها الناس ويتعاورونها بينهم، في شتى أغراضهم ومناحيهم، ومثاقفاتهم ومحاوراتهم، وسائر أسبابهم؛ولقد أسماه مؤلفه الذخائر والعبقرياتولهذا المعجم وتأليفه قصة يرويها المؤلف فيقول: أن وزارة المعارف المصرية كانت قد أعلنت رغبتها مذ سنيات، في أن يختار من يرتغب من الأدباء، أيما أحب إليه من تلك الطائفة من مؤلفات القدامى التي وقع عليها اختيار القائمين بالأمر في الوزارة، كي يهذبوها ويجلوها على التلاميذ وأشباه التلاميذ من النشء جلوة حسنة تحلو لي بها في أعينهم، وتطبي أهواءهم، وينتفي بها عنهم ما عسى أن تنبو به طباعهم، وتتجافى أذواقهم؛ وكان من بين هذه التواليف التي اختارتها الوزارة كتاب (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء لأبي القاسم حسين بن محمد المشهور بالراغب الأصبهاني) ولما كان هذا الكتاب من الكتب القيمة بحق في بابه حبب إلي بادي الرأي أن أضرب بسهم، في هذا العملالضخم، فأعمد عمد عين إليه، وأحقق بذلك ما ترامت وزارة المعارف إليه، بيد أني لما أنعمت النظر في ذلك الكتاب واستقريته رأيت من الخير أن يبقى على ما هو عليه، اللهم إلا أن يتداركه أديب ضليع دراك، بالضبط والشرح والتحرير مما استبد به وطغى عليه وتخونه، من التحريف والتصحيف والأخطاء التي ألوت بمحاسنه.ولقد تلامح لي، بل بدا لمحا باصرا: أن الراغب إنما وضع هذه المحاضرات للمنتهين، لا للشادين، لأن مختاراته تكاد تكون خداجا مقتضبة مبتورة كأنها مذكرات، أو رؤوس مسائل أملاها الراغب لتكون منبهة للأديب إذا هو استذكر بها ما قد اقترأ، فتداعت الأشباه وتجاوبت النظائر، فطاع له المراد فحاور وحاضر وناقل وثاقف، فبذ الأقران، فاشرأبت إليه الأعناق، وثنيت به - كما يقال - الخناصر؛ ومن هنا لا يكاد ينتفع بمحاضرات الراغب غير أولئك الذين اضطلعوا قبلا بما فيها كاملا غير منقوص في مظانهامن القرآن الكريم والحديث الشريف، وسائر كتب الأدب واللغة والتاريخ وموسوعات الثقافة العربية في شتى ألوانها.هذا شيء، وشيء آخر، هو أن أبواب المحاضرات، أو حدوده، لم ترقني، أما تلك العناوين الصغيرة التي طواها الراغب تحت كل باب أو كل حد فقد راقتني كل الروق، وإن لم ترق جلال الدين السيوطي. . .لهذا كله رغبت عن معالجة المحاضرات على النحو الذي اقترحته وزارة المعارف، وانصرفت نفسي عن ذلك إلى وضع معجم حاشد حافل مستقل، يهجم فيه الطالب على طلبته، في أي معنى من المعاني موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع.على أنني جعلت محاضرات الراغب معولي الأول في هذا المشوار،الكثير العثار، ومنهلي العذب الذي إليه الإيراد ومنه الإصدار، وعمدتي في لم شمل الأشباه والنظائر، وكل ما كان من المعاني قد وشجته القرابات والأواصر ولقد تخيرت من المحاضرات سويداوات القلوب وأناسي العيون، وضممت إليها أولات الأرحام مما أغفله الراغب وأثبته الآخرون، مثل ابن قتيبة في عيون الأخبار، وابن عبد ربه في العقد الفريد، وأبي هلال العسكري في ديوان المعاني والنويري في نهاية الأرب، وفلان، وفلان، ولم أجتزئ بذلك، بل زدت خير ما أترسمه مما قرأت وادارست طوال هذا الدهر، فترى خير ما في الكامل للمبرد، والأمالي لأبي علي القالي، وما لا يكاد يحصى من الدواوين والأسفار، وما خلفه لنا الأوائل والأواخر من عبقري الآثار.وبعد فليسمح لي القارئ في أن أزيده علما بكنه هذا المعجم وحقيقة الطريقة التي اتبعتها، والجهود الجاهدة التي بذلتها، والملاحظات التي يصح أن تلاحظ عليه، والنقد الذي ربما يوجه إليه؛ فإني بما أعتمل جد بصير. . .وأول ذلك وأولاه بالإشادة والتنويه: أني أودعت هذا المعجم، كما أسلفت؛ خير ما في محاضرات الأدباء للراغب، حتى ليصح أن يطلق عليه مختارات المحاضرات وإن كان في هذا الإطلاق بعض الظلم للذخائر والعبقريات لأنها في الواقع مختار المحاضرات وغير المحاضرات، وإياك والظن أن هذا العمل وحده هين لين، فقد علمت أن المحاضرات لقد طغى عليها التحريف والتصحيف إلى حد أن كل حرف، فضلا عن كل كلمة، من آية كريمة، أو حديث شريف، أو بيت من الشعر، أو كلمة مأثورة، لا بد أن أحققه بالرجوع إلى مصادره المختلفة حتى يستقيم ويقر به القرار، وإذ ذاك ألقي عصا التسيار، إذ تقر عيني كما قر عينا بالإياب المسافر. . .يجيء بعد ذلك أني كلما رأيت الراغب يورد في أي باب من الأبواب أثرا من آثارهم، أكان من المنظوم أم من المنثور، فزعت إلى مظانه، فأكملت ما لا بد من إكماله، وزدت ما استحسن زيادته، من كل ما قد يعلق بالذاكرة، أو أتعثر عليه في أثناء مطالعاتي ومراجعاتي.أما أبواب هذا المعجم فقد عدلت بها وانحرفت لا عن أبواب المحاضرات فحسب، بل عنها وعن سائر ما كان على غرار المحاضرات من سائر الموسوعات، وأنت إذا تصفحت الذخائر والعبقريات بدا لك أني ابتكرت طريقة مثلى في تبويبها، فقد جهدت جهدي أن تكون الأبواب متجانسة متجاوبة، ومن ثم كسرت هذا المعجم عل كتب وطويت الكتب على أبواب وأدرجت في كل باب سائر المعاني المتشابكة الأرحام. . .أما عناوين المعاني فقد انتفعت بعناوين الراغب كل الانتفاع، فحذوت على حذوها بعد شيء من التصرف والتحوير والزيادة في أكثر العناوين.يأتي بعد كل أولئك أني امتزت عن الراغب وغير الراغب بعملين عظيمين، فأما أولهما فهو شرح كل ما يجمل شرحه من العبقريات، وقد يلاحظ أني تبسطت في الشرح - في كثير من المواضع - إلى الحد الذي قد ينكره الخاصة، ولكن يجمل أن يلاحظ كذلك أني وضعت هذا المعجم للخاصة وغير الخاصة، أي لكل قارئ، على أن هذه الشروح هي الأخرى لون من ألون الأدب والثقافة، وقلما تخلو من الفوائد والعوائد. . . وعلى أن هناك من العبقريات - كبعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والحكم والمواعظ، وبعض الألفاظ المتداولة - ما حرفه السواد الأعظم عن مواضعه وجهلوا مغزاه الذي يغزوه قائلوه، فكان لا مندوحة عن تبيان معناه، وفي هذا علاوة على ذلك امتثال لقول سيدنا رسول الله: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). . . وأما العمل الآخر فهو تصدير كل باب بكلمة أكشف بها المراد بما عقد له هذا الباب، وذلك كقولنا على البر والتقوى، وعلى الصبر، وعلى الشكر، وهكذا وهكذا. . . وهذا عمل له قيمته التي ما منها بد.ومما امتاز به هذا المعجم أني لم أقتصر على إيراد العبقريات من الأقوال وإنما عرضت فيما عرضت لترجمة بعض العبقريين الذين نبغوا في معنى من المعاني، مثل القاضي أحمد بن أبي داود، تلك الشخصية الضخمة التي خلدت آثارها في اصطناع المعروف والإحسان إلى الناس، وإن كنت أوجزت القول في ذلك كل الإيجاز، وكذلك عرضت للتعريف بالشعراء والعلماء والزهاد والحكماء الذين أوردت في هذا المعجم عبقرياتهم، وإن كان ذلك في أجزأ قول، وقد يلاحظ أني أغفلت التعريف بكثير من القائلين، كما أغفلت في بعض المواضع شرح كثير من أقوالهم، وذلك إما لأني عرفت من يجب أن يعرف وشرحت ما يجمل أن يشرح في مواضع أخرى، وإما حدث ذلك سهوا وغفلة، وقد يحدث - وذلك في الندرة - أن يكون الإغفال - ولاسيما إغفال التعريف بالرجال - لأني لم أوفق إلى التعرف عليهم. . .هذا وكانت النية أن أتوسع في إيراد عبقريات المعاصرين، ولكني اقتصدت في ذلك كل الاقتصاد، لأن هذا المعجم من ناحية ليس كتاب مختارات بالمعنى المعروف وإنما هو معجم معان، وإن كنت قد عملت ما وجدت إلى ذلك السبيل على أن يكون كتاب مطالعة بجانب أنه كتاب مراجعة، ومن ناحية خشيت أن أتهم بما أنا براء منه في الواقع إذا أنا أوردت المختار من عبقريات بعض المعاصرين دون بعض، على أن آثار المعاصرين كثيرة التداول بين قراء هذا الجيل، ومن هنا أوردت فيه بعض عبقريات المعاصرين ممن استأثر الله بهم، وأوردت أيضا ما استحسنت إيراده مما نقل إلى العربية من اللغات الأجنبية، وبخاصة ما نشر قديما في مجلة البيان التي كنت أقوم بإخراجها من سنة 1911 إلى نهاية سنة 1921 ميلادية؛ وكذلك وقع اختياري على البارع كل البراعة من الكلمات الطويلة بعض الطول لبعض العبقريين من الغابرين، وإن كان ذلك في النادر الذي لا يؤبه له، لندرته، وإن كنت كذلك حذفت مما اخترت من هذا الضرب كثيرا من الفضول.أما تسمية هذا المعجم الذخائر والعبقريات فلهذه التسمية مغزى أغزوه، أما العبقريات فإني أريد بها - كما هو واضح - كلماتهم القصيرة المأثورة المتفوقة في معناها، على أني لم آل جهدا في تخير العبقري في معناه ومبناه معا؛ وأما الذخائر فإني لم أقتصر في هذا المعجم على اختيار نوابغ الكلم، وإنما قد تلجئ الحال إلى أن أشعشعه كما تشعشع الراح، بالماءالقراح فأورد بعض المباحث اللغوية والعلمية، على شريطة أن تكون بجانب مكانتها الرفيعة في بابها جميلة مستطرفة محذفة قصيرة متجردة من الأذناب والفضول، كبعض كلمات بارعة لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تراها مبعثرة ههنا وههنا في كتابه الحيوان، مثل كلامه على الخصاء والخصيان، وكلامه على العين وأفعالها في المعين، وكبعض كلمات كذلك لغيره. . . وأمثال لهذا كثيرة، على أن كلا الحرفين - الذخائر والعبقريات - مما يصح أن يوضع موضع الآخر، فيطلق على كل ما يؤثر ويذخر لنفاسته، سواء أكان من الكلمات أم من الموضوعات، فكل عبقري من القول هو ذخيرة من الذخائر، وكل موضوع قيم هو عبقري من العبقريات.هذا المعجم يقع في زهاء عشرة أجزاء، كل جزء منها يستوعب ما يربي على العشرين والثلاثمائة صفحة من هذا القطع، من هذا الورق الذي ترى. . .وبعد فإني على هذا الجهد الجاهد لا أبرئ هذا الكتاب، من العاب، وهل يصح في الأفهام أن رجلا يجر وراءه نيفا وستين سنة، موقرة بكل ما يضعف المنة ويوهن القوى، ويعصف بالحيوية عصفا، لا تتكاثر هفواته وعثراته، وتتوافر سقطاته وزلاته، في عمل مثل هذا يحاوله، وتأليف تتشعب موضوعاته ومسائله، وإذا كانت الموسوعات التي منها تخيرت حسابا فهذا المعجم فذالك، وإذا كانت عبقرياتهم ههنا نظاما فهي نثار مبددة هنالك، وإذا كان المؤلفون يستظهرون على إخراج مؤلفاتهم في العادة بالوراقين والمصححين فلقد قمت وحدي بهذا العمل دون الاستعانة بأحد من أولئك. . . على أن النقصان، عالق بالإنسان، كان من كان، وإنما الكمال، للحي الذي لا يموت ذي الجلال. . .اللهم إني أبرأ إليك من الحول والقوة، اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض، يا من لا ينفع ذا الجد منك الجد، يا من وعدت الذين هم محسنون بحسن الجزاء وحاش لله أن يخلف الوعد، سبحانك تبارك اسمك وتعالى جدك، أسألك يا من تجيب دعوة الداعي إذا دعاك، أن تهب هذا الكتاب من توفيقك ما يتصل معه برضاك، ويعم الانتفاع به والإفادة منه ما اختلف الملوان، وكر الجديدان. . .ديسمبر سنة 1941ذو القعدة سنة 1360عبد الرحمن البرقوقي