الحياة لعبة دومينو حساسة للغاية، ما إن تلمس بطرف إصبعك الحجر الأول حتى تتهاوى الأحجار تباعاً، لا يغرّنك امتداد الزمن بالحال الثابت المستقر، فكل حراك يقود ما يليه.هكذا لعبت لعبة التجريب الأدبي في نص قصصي طويل نسبياً أسميته "دومينو"، حين اخترت شخصاً لا مزايا له، ولا أحداث تشق روتين حياته، يمضي في حركة مدورة من المهد إلى اللحد، ثم ...
قراءة الكل
الحياة لعبة دومينو حساسة للغاية، ما إن تلمس بطرف إصبعك الحجر الأول حتى تتهاوى الأحجار تباعاً، لا يغرّنك امتداد الزمن بالحال الثابت المستقر، فكل حراك يقود ما يليه.هكذا لعبت لعبة التجريب الأدبي في نص قصصي طويل نسبياً أسميته "دومينو"، حين اخترت شخصاً لا مزايا له، ولا أحداث تشق روتين حياته، يمضي في حركة مدورة من المهد إلى اللحد، ثم يرجع المشهد مقلوباً كما لو في عرض سينمائي أصابه الخلل، وأعترف حينها أني كنت أحاول تتبع سيل الحياة الذي يسير بإصرار نحو النتيجة النهائية.أتفحص تلك الحالة في الأدب كما في الحياة، تحضرني أغنية كنا نغنيها في الطفولة، ولا شك إن الثقافة العربية عموماً حفلت بمثل الصورة المكررة في هذه الأغنية، بل وكانت حجر الأساس في الحكايات الشعبية، ودرساً خفياً يتلقاه الطفل دون وعي، لو توقفَ عنده لعالجَ إشكالات حياته في ما بعد بصورة مغايرة.تقول الأنشودة: "حدوتة بدوتة.. طلع الشيخ ع التوتة.. والتوتة بدها فاس.. والفاس عند الحداد.. والحداد بده بيضة.. والبيضة عند الجاجة.. والجاجة بدها قمحة.. والقمحة بالطاحونة.. والطاحونة مسكرة .. فيها مي معكرة..".لنقلب المشهد، لو لم تكن "الميّ" معكرة، لما كانت الطاحونة "مسكّرة"، لأمكن الحصول على القمحة، وإطعام الدجاجة، من ثم تبيض، ونعطي الحداد البيضة، فيصنع الفأس، ويتعامل الشيخ مع التوتة كما يجب.. إنها لعبة مرصودة بعناية، أيّ خلل في فقرة من فقراتها يغير النتائج.هكذا نراقب حركة أحجار الدومينو منذ اللحظة التي دفع فيها "البوعزيزي" الحجر الأول. هل حقاً كان هذا البائس اليائس صاحب الحجر الأول؟ ربما هذا على صعيد المشهد الراهن الماثل أمامنا، أما تحت الماء فحراك موجة التدمير، الأعلى من تسونامي، كان يُنسج منذ سنين طويلة، دلالاته في الفقر والفساد والقهر، والأحلام الموؤدة.أما انتقال الحركة بتلك الكيفية المتتابعة الخارجة عن توقعات السياسين والمفكرين، فإنه يجعل راتب موظف بسيط في دمشق مدين للحم البوعزيزي في زيادته، ثم داخل ذلك الحراك هناك أجندات تحاول ركوب الموجة وإيجاد موقع قدم لها، إلا أن الانفجار الشعبي يتقدم مثل الموجة الكاسحة حقاً، تلك التي حملت السفن الكبيرة من عمق البحار، وألقت بها على الشوارع الإسفلتية.ما يحدث اليوم في بلدنا، وكل بقعة عربية، رهان على وعينا، وعلى قدرتنا وحساسيتنا تجاه معرفة مكامن الفتنة، وخفافيش الليل، وهراوات النهار الوقحة، وأجندات أصحاب المصالح، المحلية الضيقة، والدولية الواسعة، وهو تحدٍّ عال وخطير، لأننا في لحظة تاريخية وجدنا أنفسنا أمام اللعبة الخطيرة، الدومينو، وعلينا إصلاح مسار الأحجار، وترتيب البيت، كي نشارك بدورنا في مستقبل قادم، مختلف، أكثر ديمقراطية وحرية ومسؤولية، وأكثر انتماءً للوطن، وفهماً لذلك الترابط العروبي المذهل الذي قضى سياسيو العالم العربي عقوداً في محاولة محوه، فإذا به يعود جلياً بلمسة حجر واحدة.