زينة جليل عبد عرفت للتصوف حدود كثيرة؛ ذلك ان التصرف إنما هو تجربة ذوقية فردية، روحية، وقد عرّفها كل ممن عاشها بحسب إحساسه بها، وفهمه لها، قال الإمام الغزالي في ذلك: "فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط"، وقال أيضاً: "وهؤلاء أقوالهم تُعرب عن أحوالهم فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق... لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة ...
قراءة الكل
زينة جليل عبد عرفت للتصوف حدود كثيرة؛ ذلك ان التصرف إنما هو تجربة ذوقية فردية، روحية، وقد عرّفها كل ممن عاشها بحسب إحساسه بها، وفهمه لها، قال الإمام الغزالي في ذلك: "فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط"، وقال أيضاً: "وهؤلاء أقوالهم تُعرب عن أحوالهم فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق... لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم".ويراد من ذلك - أن الصوفية عندما يتكلمون وعندما يسألون لا يقولون إلا ما يعبر عن حالهم الذين هم فيه، أو المقام الذي وصلوا إليه؛ فمن كان في مقام الشوق أو الأنس أو غيره عرّف التصوف وكأنه الزهد أو الصبر؛ أما التفكير الدلالي عند الصوفية؛ فهو يشكل حجر الأساس في الدراسات اللسانية التي أضحت مقوداً للحركة التأسيسية في المعرفة الإنسانية، فهي تعلف على دراسة اللسان وتتخذ اللغة مادة لها وموضوعاً؛ إذ لا يتميز الإنسان بشيءٍ تميزه بالكلام، وقد حدّه الحكماء منذ القدم بأنه الحيوان الناطق.وهذه الخصوصية المطلقة هي التي أضغت على اللسانيات صيغة الجاذبية والإشعاع الفكري، فاللغة عنصر قارٌّ في العلم والمعرفة سواءٌ ما كان منها علماً دقيقاً، أو معرفة نسبية، أو تفكير مجرداً، وللتفكير الدلالي مظهران لغويان، أحدهما تنظيري يتمثل في المثلث الدلالي الذي اعتمدته اللسانيات في تعريفها للحديث اللغوي، وعلاقة العناصر بعضها ببعض، وأول من تنبه إلى علاقة الدالّ بالمدلول هم الهنود؛ إذ سبقوا اليونانيين، وتحدّث الكثير من فلاسفتهم عن ثلاثة أقسام رئيسية هي: الكلمة، والإدراك، والمحتوى، إذ ترتكز الدلالة على الإعتباط الذي يكون الربط الدلالي إبتداء؛ إلا أن الدال حين يتداول وهو مرتبط بالمدلول الذي تواضع عليه الناس، يغدو على لسان المتكلم وفي أذن السامع قائماً مقام المسمى المدلول عليه في الذهن وفي عالم الوجود الفعلي، ويرتفع بذلك حاجز الإعتباط.ويقوم ذلك على القصد الذي يمثل مظهر الإدارة الراعية في ربط الدوالِّ بمدلولاتها في اللغة، كذلك يكون للزمن تأثير حاسم في الإطّراء والتواتر اللذين يعملان على إستقرار الإقتران الدلالي؛ أما المظهر الثاني من مظاهر التفكير الدلالي فهو مظهر تجريدي محض، يتمثل في أصول المدرسة التوليدية الحديثة، وهي تيار لسانيٌّ ظهر في الولايات المتحدة في خضمّ مدرسة عرفت باللسانيات التحويلية.وإلى هذا، وبالعودة إلى الموضوع الذي شكل المحور في هذه الدراسة، وهو الدلالة في اللغة الصوفية؛ فإن القارئ لكتب الصوفية ودلالاتهم يجد أنهم اختطوا لأنفسهم فكراً دلالياً خاصاً بهم، فأضحت مقاصدهم والمعاني التي يرمونها مختلفة عما هو معروف لعوامٌ الناس فهمه من تلك العبارات؛ إذ جرت العبارات الصوفية - في الغالب - بشأن معانٍ وجدانية وروحية ونفسية وإجتماعية نتجت عن تجاربهم الخاصة، وهم يستعملون للتعبير عن هذه المعاني لغة جميلة تفيض بالأخيلة والصور والإبداع.هذا وتتسم لغتهم بأنها لغة الرمز والإشارات التي لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين؛ ذلك لأنهم يخوضون تجربة خاصة لا يعانيها ولا يفهم دقائقها إلا من خاض عمارها وأدّى طقوسها بنفسٍ صافية ونية صادفة متجهة إلى الباري - جلّ في علاه - تاركاً خلف ظهره كل المتع الدنيوية، متعلقاً بحبه الكبير للذات الإلهية، يملؤه الأمل المغري بالفوز بجنان الخلد التي أعدّها الله للمتقين.وعلى ذلك، ولمّا كانت التجربة الصوفية تجربة خاصة في خصائصها وشروطها؛ فلا بد من أن يصطلح الصوفية على مسميات وإصطلاحات خاصة يهم لها مدلولات وأغراض معروفة عندهم، وهذا هو شأن العلماء في شتى أنواع المعرفة، ولكن ثمة فرق كبير بين الصوفية وغيرهم، وذلك أن المدلولات اللغوية الممتلئة بالنحو والصرف والبلاغة ترجع إلى العقل في فهمها وإدراكها.أما المصطلحات الصوفية فلا ترجع إلى العقل، وإنما ترجع إلى الذوق، لذا لا يفهما أحد بالعقل فهماً صحيحاً، وإنما يفهمها من تذوقها ووقف في الموقف الذي فيه التصوف، لذلك يتطلب البحث في أساليب الكتابة الصوفية إستقراءً كاملاً للنثر الصوفي برمته وقراءته بعمق وتأنٍ للوصول إلى تحديد سماتٍ فنية ودلالية مشتركة له.فعلى الرغم من إرتباط النص الصوفي بالتجربة الصوفية في جميع مقوماتها؛ إلا أنه يحتاج إلى جهد علمي خاص لإستكشاف ملامح نصوصهم الدلالية وخصائصها الأسلوبية.من هنا، تأتي أهمية هذا البحث الذي يغني المكتبة اللغوية التي هي بإفتقار إلى مؤلفات تبحث في الدلالة في اللغة الصوفية، بينما أغناها الباحثون اللغويون بدراسات تناولت وفي إطار الدلالات اللغوية؛ الدلالة عند اللغويين وعند البلاغيين، وعند الأصوليين، ففضلوا القول فيها، وأغنوا في إيفائهم مباحثها وموضوعاتها.وقد التفتت الباحثة إلى هذا الأمر، فجاءت مادة بحثها ضمن ثلاثة فصول وخاتمة سبقتها مقدمة وتمهيد، فجاء التمهيد بمثابة مدخل لتعريف القارئ بمعنى التصوف وما إلى هنالك من أمور تتعلق بالتسمية، وببيان معنى التفكير الدلالي عند الصوفية، لتعرض بإسهاب في الفصل الأول معنى لغة الصوفية، ولتخصص الفصل الثاني للحديث عن الإشارات الصوفية من حيث نشأتها عواملها ودلالاتها أما الفصل الثالث والأخير فقد دار حول الخطاب الصوفي؛ مفهومه، طبيعته، وأهم مصادر الإستلهام فيه، ليتم من ثم إلحاق هذه الفصول بخاتمة موجزة تضمنت النتائج التي توصل إليها البحث، أما المنهج الذي اتبعته الباحثة فقد كان متنوعاً إذ كان في بعض المواضع وصفياً، تحليلياً في مواضع أخرى.