في أواخر الأربعينات، بعد الحرب العالمية الثانية والتغييرات الكبرى التي أعقبتها في الظروف الموضوعية في العالم العربي، كانت ثورة الشعر المعاصر الشاملة، وعلى الأرض العراقية بالذات. في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الشعر المعاصر ارتفعت الأصوات الجديدة في العراق، السياب والملائكة والبياتي خاصة، لتحقق كل ما سبقها من تنظير وتجريب في مجال...
قراءة الكل
في أواخر الأربعينات، بعد الحرب العالمية الثانية والتغييرات الكبرى التي أعقبتها في الظروف الموضوعية في العالم العربي، كانت ثورة الشعر المعاصر الشاملة، وعلى الأرض العراقية بالذات. في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الشعر المعاصر ارتفعت الأصوات الجديدة في العراق، السياب والملائكة والبياتي خاصة، لتحقق كل ما سبقها من تنظير وتجريب في مجال تجديد القصيدة العربية، وتنتقل بالشعرية العربية إلى المعاصرة والحداثة في فترة وجيزة. لم يكن "الشعر الحرّ" أو شعر التفعيلة تجديداً في الشكل الإيقاعي فحسب؛ بل كانت ثورة شاملة بدأت بكسر الإيقاع التقليدي ونظام البيتية الصارم، لتفتح القصيدة العربية في وجه تيارات التغيير الحديثة، وتمضي بها سريعاً إلى المعاصرة، ثم إلى العالمية أيضاً. فلماذا كانت هذه الثورة في العراق بالذات، وما الأسباب الموضوعية والخاصة التي أدت إلى انتقال "زعامة" الشعر من وادي النيل إلى أرض الرافدين، في الخسمينات والستينات على الأقل؟في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل يرى الدكتور سليمان جبران أن ذلك ممكناً بالنظر في دواعي هذا التجديد في العراق عامة وفي شعر محمد مهدي الجواهري الذي حمل جذور هذا التجديد. فإن الجواهري الذي هو آخر الكلاسيكيين الجدد هو بالمقابل أكثر من اقترب بالقصيدة العمودية من القيم والحساسيات المعاصرة. إلا أن الجواهري الشاعر لم يحظ بالعناية التي تستحق من النقاد والدارسين، كما أن شهرته، وقد ملأت العراق وشغلت الناس فيه، لا تكاد تتعدى بعض الأوساط اليسارية من المثقفين والأدباء في العالم العربي، ولا شك أن وراء هذا التعتيم على الجواهري في البلاد العربية القيم الثورية التي تحملها القصيدة الجواهرية، وهي من أهم الأسباب فهل من مصلحة لأي نظام أو أيّ مؤسسة تقليدية في العالم العربي، في إذاعة هذا الشعر الذي يحرض على الإطاحة بالأنظمة الجائرة والمؤسسات التقليدية والمواصفات البالية، بأسلوب حافل بالعنف والثورة.وبالنظر إلى أهمية شعر الجواهري تأتي هذه الدراسة في سيرته التي لا تقل إثارة عن شعره وفنه. ففي سيرته، كما في شعره، وجد الباحث كل التناقضات التي يحفل بها مجتمع نامٍ ينظر بإحدى عينيه إلى الحاضر ويشدّ الماضي عينه الأخرى فلا تستطيع منه فكاكاً. قرأ كل ما وصلت إليه من أخبار الشاعر وأحداث حياته المتضاربة لدى الكتّاب والدارسين، وجميعهم من العراقيين الذين عرفوا الشاعر وعايشوه، إلا أن الباحث وجد أن أهم المصادر للوقوف على هذه السيرة القلقة كان، بلا شك، كتاب ذكرياته التي أصدره في دمشق في مجلدين اثنين كبيرين. في "سيرته الذاتية" هذه سرد الشاعر بصراحة وصدق كل ما وعته ذاكرته، وهي ذاكرة نادرة فعلاً، من أحداث حياته وأحداث العراق المتداخلة بسيرته، حتى يمكن اعتبار هذا الكتاب مصدراً تاريخياً لفهم الحياة السياسية في العراق المعاصر، لا أقل منه مصدراً لفهم الجواهري والشعر في العراق عامّة.يحفل كتاب الجواهري ذاك بالاضطراب الشديد والاستطرادات والاستدراكات، إلا أن ذلك ساعد الباحث على فهم سيرة الشاعر ونفسيته لا اقل من اعترافاته الصريحة وأقواله المباشرة. من هذه المراجع جميعها تجمعت لدى الكاتب الخيوط الرئيسية لتشكيل المدخل الذي بدأ به دراسته هذه وحاول الوقوف فيه على عوامل نشأته وتكوينه حتى أوائل العشرينات، ثم عرض لسيرة الجواهري الشاعر مقتصراً على "المحطات" الهامّة والأحداث البارزة ذات الصلة بشاعريته وشعره. بعد هذا المدخل، الذي شكل خلفية هامة لفهم الشاعر وشعره، تناول الباحث شعر الجواهري بالدرس والتحليل، فوقف على مراحل تطوره الفني والسمات البارزة في كل مرحلة، مؤكداً بشكل خاص مرحلة الأربعينات والخمسينات من شاعرية الجواهري باعتبارها مرحلة النضج التي عُرف بها الشاعر أساساً وبلغ بها قمة فنه الشعري. ويشير الدكتور جبران بأنه ورغم إعجابه بشاعرية الجواهري إلا أنه حاول تناول سيرته وشعره بموضوعية وتجرد عسى أن تساهم دراسته هذه في التعريف بهذه الشاعرية الفذّة ومكانتها في تاريخ الشعر المعاصر.