ما كدت أبدأ دراسة هذا الموضوع حتى اعترضتني أحكام مرتجلة ونظريات فجّة وصعوبات تكمن في أمرين اثنين اعتقدهما الناس أصلا في الشعر الجاهلي وطبيعة فيه، ومنحتها قداسة القدم نوعا من تحريم المخالفة للمأثور. فأما أولهما فهو متصل بماضي الأمة العربية وحضارتها وطبيعة أرضها. وفحواه أن عرب العصر الجاهلي كانوا يعيشون في أرض مجروزة، وإنهم خرجوا ...
قراءة الكل
ما كدت أبدأ دراسة هذا الموضوع حتى اعترضتني أحكام مرتجلة ونظريات فجّة وصعوبات تكمن في أمرين اثنين اعتقدهما الناس أصلا في الشعر الجاهلي وطبيعة فيه، ومنحتها قداسة القدم نوعا من تحريم المخالفة للمأثور. فأما أولهما فهو متصل بماضي الأمة العربية وحضارتها وطبيعة أرضها. وفحواه أن عرب العصر الجاهلي كانوا يعيشون في أرض مجروزة، وإنهم خرجوا من صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ضَرْعَ، وإنهم لم يفرقوا بين الملح والكافور.وكان لابد من توضيح هذا الجانب، ورد السهام المصمية إلى نحور أصحابها فبينت أن عرب الجزيرة كانوا على معرفة كاملة بمعظم الجوانب الحضارية، وأن الجزيرة العربية كما كشف عنها البحث الآثاري تضم بعضا من أقدم الحضارات الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ، كما نشأت بها حضارات لها أصالتها، بل وتضاهي في بعض نواحيها الحضارات القديمة المعروفة كحضارة بلاد الصين والهند وفارس والعراق وبلاد الشام والبحر المتوسط ومصر وبلاد الحبشة. وهذه الحضارات المجاورة قد تكون متقدمة في أكثر من مضمار ولكنها ترجع في جذورها إلى الجذور التي انطلقت منها حضارة الجزيرة العربية نفسها. وذلك لأن موقعها الجغرافي جعل منها في عصور مختلفة منطقة جذب حضاري وتفاعل بشري تأخذ وتعطي، ومنطلقا لطرق التجارة إلى جانب كونها منطلقا لهجرات متتابعة إلى وادي الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل. وقد كان عرب العصر الجاهلي الأخير، كما تدل على ذلك النصوص الشعرية، مدركين لهذه الخلفية التاريخية والحضارية التي رددها القرآن الكريم في أكثر من آية لتكون عظة وعبرة لهم.وأما الأمر الثاني فهو متصل بالشعر مباشرة وقد جَثَم بكلكله عليه وأردف إعجازه وحال دون فهمه وسبر أغواره. وقد صنع أصحابه أسطورة مزيفة لاكتها الألسنة حتى كره الناس سماعها. ومجها حديثا ذوق الدهماء فضلا عن الذوق الأدبي. وتذهب هذه الأسطورة رلى القول بتفكك القصيدة الجاهلية وتمزق أصولها، وأن النسيج الشعري فيها يتألف من خلايا منتظمة بالتجاور لا بالتوالد.وَاشْتَطَّ أصحاب هذا الرأي الفاسد كثيراً في محاولة نفي الوحدة في الشعر الجاهلي إما جهلا وحماقة، أو لؤما وسوء نية. وقالوا أن البيت في القصيدة وحدة مستقلة بنفسها، يتحرك ويحيا في انفصال تام عن سواه في القصيدة.وللأسف فقد تمكن هذا الفهم القاصر من نفوس كثير من الدارسين المحدثين فاتخذوه ذَرِيعَةً للطعن في الشعر الجاهلي، لأنهم ينظرون إلى القصيدة على أنها أبيات منفصلة تماما عن غيرها، ولا يريدون أن ينظروا إليها نظرة إجمالية عامة، وفي هدفها العام.فإن من ينظر هذه النظرة لا يحصل له إلا فهم ظواهر الألفاظ بحسب الوضع اللغوي فقط، لا بحسب المعنى الكلي، أو العاطفة الشاملة العامة، أو الغرض الواحد للقصيدة...