لقد كان التفاضل في الكلام بين العرب هو ميدان سباقهم، وهو المضمار الذي يطلقون فيه أعنّه خيولهم، فيظهر من بينهم المعجز والمفحّم، وتتفاوت قدراتهم في الإبانة بحسب قدرتهم على التصرّف في الكلام، والتعبير عن المعنى الواحد الذي يجعلونه غرضاً يتبارون، فيما بينهم، على تصويره وصياغته؛ ليظهر منهم السابق والمصلّي، وليميز تصويرُ المعاني أرباب...
قراءة الكل
لقد كان التفاضل في الكلام بين العرب هو ميدان سباقهم، وهو المضمار الذي يطلقون فيه أعنّه خيولهم، فيظهر من بينهم المعجز والمفحّم، وتتفاوت قدراتهم في الإبانة بحسب قدرتهم على التصرّف في الكلام، والتعبير عن المعنى الواحد الذي يجعلونه غرضاً يتبارون، فيما بينهم، على تصويره وصياغته؛ ليظهر منهم السابق والمصلّي، وليميز تصويرُ المعاني أربابَ البيان ممَن هم دونهم في هذا المضمار.ولمّا كان الشعر هو باب بلاغتهم، وهو نموذجهم الأمثل في الكلام العالي، فقد اتخذت العرب من الشعر ميداناً للتسابق، تجري عليه أحكامها، وتقيس به قدرة أرباب الكلام على تصوير المعاني تصويراً يبلغ بها أقصى درجات البيان، ويُعلَمُ به مقدار ما بينهم من الفضل والتميّز.وكانت الموازنة هي الباب الذي اتخذه العارفون بجوهر البيان للحكم بين الشعراء، فكان الشعراء أنفسهم يقصدون هؤلاء لإجراء الموازنة والحكم بينهم، وإبان هذه الفترة الزمنية نزل القرآن الكريم ببيانه المعجز التي بلغ فيها العرب مبلغاً لا يُجارى في البيان، فتمّت سلائقهم ونضجت لغتهم حتى صارت صور معانيهم ناطقةً عن حياتهم ومبينة عن خلجات نفوسهم وناقلةً للمخبوء المستكنّ في ضمائرهم.من هنا، تجيء أهميّة هذه الدراسة، فالموازنة بين صور المعاني في ضوء نظرية النظم ذات قيمة تتصل بإعجاز القرآن الكريم من جهة، وذات صلة ببيان الشعر من جهة ثانية، وذلك بقصد معرفة أسرار البيان، وهذا يجعل الدراسة ذات شقّين، احدهما يتصل بدراسة الإعجاز، والآخر يتصل بدراسة الشعر للوصول إلى منهج متكامل للموازنة، يفيد من دارسي الإعجاز كما أفاد دارسو الإعجاز، من قبل، من الموازنات النقدية التي دارت حول الشعر للبحث في أسراره.وهذه الدراسة معنيَّة بالوقوف على منهج للموازنة بين صور المعاني، ومعنيَّةٌ أيضاً بالوصول إلى غاية سامية هي الوقوف على أسرار التصوير القرآني وكيف تميّز القرآن الكريم عن الشعر في صياغة المعاني ونظمها وبنائها وذلك في ضوء فكرة صورة المعنى التي أسّس عليها عبد القاهر الجرجاني منهجه في الموازنة بين بيان وبيان.