الفكرة ونطفتهاأنا - كما كل الذين أدركتهم حرفة الأدب - دأبه البحث عن سر الجمال في القول ، والبناء الفني للنص ، وعن الذي يجعل من القصة قصة ناجحة ، والقصيدة قصيدة ناجحة ، وكذلك الرواية والمسرحية والمقالة ، من خلال ما يمارسه من تسكع على أبواب الإبداعات المختلفة ، و في أروقة النص الأدبي ، والتمعن في معماره الداخلي ، والتمتع بالنقوش ا...
قراءة الكل
الفكرة ونطفتهاأنا - كما كل الذين أدركتهم حرفة الأدب - دأبه البحث عن سر الجمال في القول ، والبناء الفني للنص ، وعن الذي يجعل من القصة قصة ناجحة ، والقصيدة قصيدة ناجحة ، وكذلك الرواية والمسرحية والمقالة ، من خلال ما يمارسه من تسكع على أبواب الإبداعات المختلفة ، و في أروقة النص الأدبي ، والتمعن في معماره الداخلي ، والتمتع بالنقوش المبهرة والأثاث الفخم المالئ للفراغ ، لعله يعثر فيه على جدة يقتبسها ، أو أسلوب يحتذيه .وفي هذا التجوال المضني الذي يشبه تجوال الصياد ، حيث لا يعلم مسبقا بالمفاجآت الصائبة أو الخائبة التي سيمنى بها ، وما سوف تصيبه شبكته في قاع البحر ، وما تظفر به سهامه من طرائد ، هو كذلك الأديب أيضا ، لا يبصر غايته ، ولا يدري أين يصيب مبتغاه ، فهو دائما يفتش في كتب مختلفة الموضوعات والمؤلفين ، في قديم الزمان وحديثه ، فقد يعتر على أفكار يريدها وأخرى لا يريدها ، غريبة أو عدائية أو غير صحيحة ، أو أنصاف أفكار ، فجة أو مستهلكة ، إنه كالحطاب يجمع كل ما يعثر عليه ، يضعها في ذاكرته ، لكن من غرائب التفكير أن الافكار المنبوذة والغريبة تثير ذهنه مثلها مثل الأفكار العظيمة ، لذلك فإنه في عمل لا إرادي ، يقوم بما تقوم به المعدة من هضم لجميع محتوياتها ، وتترك للأمعاء وحدها استخلاص المفيد ، وما يتناسب والبنيان االذهني الذي اختطه للعالم الذي يراه.وكما كل المشاريع ، التي تمكث طويلا في أذهان أصحابها، ويتركونها مؤجلة إلى أن تلوح فرصة برونها سانحة للتنفيذ ، كذلك الكاتب ، نجده دون إذن مسبق يستشعر همة تستحثه لمشروع كتابي يبزغ فجأة ، وكأن وحيا هبط عليه أو إلهام تغشاه ، حينما يرى كل الأفكار التي راودته طويلا دانية منه ، لم يبذل جهدا في استحضارها ، يضعها في المكان الذي يناسبها ، ويبذل في ذلك وقتا أقل بكثير من الأوقات التي ناكفته بها ، وناوأها بجهد لا يقل عن جهد عمال المناجم ، لذلك كثيرا ما سمعنا أكثر من كاتب يقول إن سنينا سلخها في التفكير بعمله ، لكنه أنجزه في وقت خاطف بدا له كأنه حلم داعبه ذات وسن.ولم أجد نفسي إلا ضمن هذه السنة التي استبطنتها من استبصاري في ذاتي وفي الآخرين ، حينما وجدت نفسي متورطا في أدب الطفل ، وخاصة أن أدب الطفل قد اتخذ أبعاده ، وبدا يتمظهر بمجموعة من التجارب التي ابتدعها الأقدمون ، ووجدها المحدثون من جيلي مجالا يجب ملأه ، فكان هناك إنتاج غير متجانس النضوج ، وكنت أنا ضمن هذا التيار ، ومنذ البداية كنت استشعر اهتمامي بأدب الطفل ، وكانت لي تجاربي التي نشرت وأخرى لم تنشر ، كما وجدت لدي كثيرا من الرغبة في أن اكتب دراسة وافية ،كما أريدها وأتمناها .الفكرة وتخلّقهاوكانت الزرقاء مدينة الثقافة للعام 2010، وكانت إحدى أطروحاتها الكتابية ( أدب الطفل في الزرقاء) ، وهذا ما أثار فيَّ الميل الدفبن ، و الحافز الذي دفعني للمبادرة ،والشرارة التي أشعلت ذهني وقواي ، وهكذا قررت أن امضي في ما أنا عزمت عليه ، ومضيت إلى دائرة المكتبة الوطنية في عمان ، هذا البحر الذي يغرف منه كل من أراد أن ينير زاوية معتمة في وعينا الجمعي ، فقد تزودت منها بكل المعلومات الببلوغرافية ، حين افرد لي مديرها وموظفوها فهارسهم ، وساعدوني على القراءة والتصوير ، بما يجعلني عاجزا عن شكرهم ورد الجميل إليهم .وهكذا انطلقت أحصي الكتب التي صدرت تحت مسمى أدب الطفل ، وأقرأ ما تيسر لي من هذه الكتب ، وما قاله الكتاب والدارسون في نقد أدب الطفل أو التنظير له ، وان أدون ملاحظاتي السلبية والإيجابية ، وان استخلص الأفكار والقواعد التي سنحت لي . إلى أن شعرت بأني ملكت قاعدة من البيانات ، تمكنني من بناء فكرتي بتكامل ،وأفك التشابك الذي اعتمل في ذهني. هنا تبادر لي أسئلة جمة ، كان عليًّ أن أجيب عليها في هذا الكتاب ، وهو أين يقع أدب الطفل من الأدب عامة ؟ هل هو الطابق العلوي أم السفلي ، أم هو البناية المجاورة ؟ وما هي سماته التي تجعل منه مميزا بين طوائف الأدب ؟ وتجعل كل ذي بصيرة يراه بوضوح ، وهل للطفل ذهنية مختلفة يجب أن نراعيها قبل الكتابة وبعدها ؟ وهل للمبدع الذي انبرى للكتابة للأطفال ميزاته خاصة ؟ يمكن أن يتلمسها في نفسه ،... وأن نراها فيه .إنها أسئلة جدلية ، لا يقين فيها أبدا، فكل دارس يجيب عليها وفق منظومة تفكيره ، وها أنا احد الناس الذين يجربون ذلك ، قد أصيب وقد أخطئ ، ولكنها الحضارة التي تبنى من التجارب المتراكب بعضها فوق بعض ، مختلفة الأحجام والصلابة والصلاحية ، واسمحوا أن أضع حجري ، وارتاح من حمله كل هذا الوقت .فبعد أن هيأت ببلوغرافيا الكتب ، ذهبت إلى تبويبها على مساحة الأجناس الأدبية من قصة وقصيدة ومسرحية وعلوم طبيعية وعلوم إنسانية ،بل وجدت هناك مجالات يمكن تصنيفها ضمن أدب الطفل مثل الأحاجي والألغاز، وأسئلة المعلومات والذكاء ، وتبسيط التراث والخط والطوابع والنقود أما تلك الأسئلة التي دارت في ذهني ، فلم تكن الإجابة عليها مريحة سهلة، لذلك وجدت من الإنصاف ، وما يقتضيه البحث العلمي ، أن اقرأ ما كتبه أدباؤنا محليا من نقد وتنظير ودراسات ومؤتمرات ورسائل جامعية ، وحاولت أن اجمع كل الأفكار واجعلها في سياق البناء الذهني الذي تصورته للكتاب ، بالإضافة إلى تناولي لهذه الكتب والدراسات ، اعرضها وأناقش ما فيها من أفكار وطروحات ، لكنها في مجملها لم تشكل عندي تصورا متكاملا ، يمكن أن يكون نظرية ، وتجيب على الأسئلة التي طرحتها ، والتي غدت كالنواة التي ينبغي أن تتكون حولها الثمرة .لذلك فقد وجدت نفسي منزلقا نحو التفلسف ، وانه لمرتقي صعب ، ذلك أني لا أستريح لتجميع الآراء وتكديسها ، إذ أني لا أكون واثقا من صدق قائلها وصحة طرحه ، لكي ابني عليها ، فذهبت إلى التفلسف ، لعلمي أن التفلسف يعني أن تبتدئ التفكير من حيث لم يبدأ غيرك ، أي انك تتخذ زاوية جديدة للرؤية ، لترى منها ما لم يره غيرك ، أو لترى أكبر مساحة بأوضح رؤية ، أو لتستشرف أكبر قدر من المشهد .وابتدأت على هدي من الفلسفة الوضعية ، والتي ترى أن يفترض المتفلسف نقطة انطلاق بديهية ، ثم يتخذها منطلقا لتفسير كل القضايا التي يطرحها ويناقشها ، لتبدوا وكأنها شجرة متصلة متماسكة ، ونما بعضها من بعض .ولن اشرح هنا ما أطنبت فيه ، ولكني توصلت إلي أن العاطفة تحكم العقل وتوجهه وليس العكس ، كما أن العقل لا يحكم العاطفة ، لذلك فالأدب يجب أن يخاطب العاطفة للتأثير على العقل ، وإن كان هذا شرطا لكل الآداب فإنه أحوج ما يكون في أدب الطفل ، فالطفل لم تنضج عنده ملكة التفكير المنطقي ليميز عقليا الصواب من الخطأ والمعقول من اللامعقول ، إنما يستجيب لعاطفته التي يستشعرها لذةً جمالية ، فيستسلم عقله لما تمليه عليه .وهذا عكس الكتابة العلمية التي تخاطب العقل مباشرة ، حيث يحتاج التفكير وتكوين الفكرة الجديدة ، إلى طاقة وجهد كبيرين ، قد لا تتيسر لكثير من العقول ، وخاصة الأطفال ، لذلك اقتضى وجود الأدب العلمي ، لتقديم الأفكار العلمية التي هي ذهنية ، بالأدوات الأدبية وقوالبها التي تخاطب العاطفة. وعلى كاتب الأطفال أن لا يكون قد نسي طفولته ، وعليه أن يستبطن مشاعره وأفكاره الطفولية ، ويكتب وهو بتمثل نفسه طفلا ، لا عجوزا واعظا بما يجب أن يكون عليه الإنسان ، بل يندهش كما يندهش الأطفال ، ويتبنى منطقهم وطريقة تفكيرهم ورؤيتهم للحياة ، وإحساسهم المفعم بالأسطورة والمبالغة واللامعقول والتبسيط وإحساسه بالزمن ، وكيف يقبل النتائج بدون مسبباتها ، ويحب أن يعلم انه ينسج كتابته بخيوط أوهى من خيط العنكبوت ، فإن لم يكن شديد المهارة والدربة فإن عمله لن يكون شيئا مذكورا ، بل عملا هباءً .وبقدر ما وسعني الجهد حاولت أن ابحث فلسفيا عن ابتدأت القصة والقصيدة والرواية ، وكيف نشأت كضرورة اجتماعية وليست ترفا حضاريا ، - كما يعتقد البعض - ، من هنا يجب التعامل مع أدب الطفل بالجدية الفائقة كضرورة اجتماعية وليس للتسلية وتقطيع الوقت .وأرجوا أن لا تسألوني عن (الزرقاء مدينة الثقافة ) فقد أدركني الوقت ولم أنجز ما وعدت به ، بل مضيت على رسلي غير ملتفت لما تتطلع إليه الزرقاء من انجازات.الفكرة ومخاضهاإن الفكرة التي تشكلت في العقل كغيمة متحركة ، لا بد لها حين تسيل على الورق من أن تتحول إلى شكل ، وهذا الشكل – لكي يكون مقنعا - لا بد أن يكون قوامه رشيقا ليسهل تصوره وقبوله ، أي إعادة بنائه في عقل القارئ على نحو متماسك ، لذلك بقدر ما كان تفكيري تحليليا ، فإن كتابتي كانت تركيبية ، أي مما هو معروف إلى ما هو مستنتج ، لذلك كان الفصل الأول هو نبذة تاريخية عن نشأة أدب الطفل في الأردن فلسطين ، اعتمدت فيه على ما أرخت له الأديبة روضة الهدهد وما رصده لاحقا محمود أبو فروة الرجبي ، اللذان أوفيا الموضوع التاريخي حقه ، ولم أجد ما أضيفه لجهدهما شيئا.أما الفصل الثاني فكان للجانب التنظيري والنقدي الذي كتبه الكتاب الأردنيون من أدباء أبدعوا أدبا للأطفال ، وقدموا رأيهم وتصورهم لأدب الطفل ، أو نقاد قدموا أوراق عمل لندوات ومؤتمرات ، أو طلاب دراسات عليا نشروا رسائلهم الجامعية ، أو صحفيين كتبوا نقدا وتقريظا لما نشر في الجرائد ، أو دارسين أصدروا ببلوغرافيا لتوثيق ما نشر من كتب ، وقد ناقشت محتويات بعض هذه الكتب ، عارضا منهجها وما حوته من أفكار .وفي الفصل الثالث ، طرحت مقاربة لفهم الطفولة وتخيل نشأة العقل والعواطف والخيال واللغة والتفكير والتذوق ، ثم عرضت لذهنية الطفل ووجدانه ، وكيف تنشأ الدهشة ،ويستسيغ المبالغة و ويؤخذ بالأسطورة والخرافة والسريالية كما عرضت لما لا يدركه الطفل من مفاهيم مثل الزمن والوطن والدين والجنس والمنطق والسببية والغائية وغيرها .وعرجت أيضا على مؤهلات كاتب أدب الأطفال ، وما يجب أن يتمتع به من موهبة وتجربة في مجال الإبداع الأدبي وتمكنه من اللغة الحية والمبتكرة والشاعرية ، ذلك أن أدب الطفل هو مرحلة عليا ، كما هي الصناعات الدقيقة تحتاج إلى تقنيات أكثر تطورا من الصناعات التقليدية .أما جسم الكتاب فكان بما أفردته في الفصول الخمسة اللاحقة ، فللقصة فصل والرواية أيضا والشعر والمسرحية ، حيث فرشت مهادا من فلسفة الفن لنكون - مثلا - على بينة من نشوء القصة وما بجب أن تكون عليه ، وبالتالي ما يجب أن تكون عليه قصة الأطفال ، ومن ثمّ طبقت هذه المفاهيم على بعض الأعمال القصصية، أكانت قصة واحدة أم مجموعة قصصية أم سلسلة قصصية، وكذلك فعلت بالشعر الموجه للأطفال ، ومسرح الطفل ورواية الطفل.أما الفصل الخامس فافردته للعلوم ، بشقيها العوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، فقد تناولته كما تناولت الآداب ، ابتداء من التفلسف وانتهاء بقراءة الواقع، والعلوم الإنسانية هي العلوم التي يكون الإنسان واحد من موضوعاتها، وهي الانسانيات مثل التاريخ و القضية الفلسطينية والتربية الوطنية والعقيدة الاسلامية والقرآن الكريم والسلوك والتربية ، والشخصيات التاريخية والثقافة الاسلامية والبلدانيات والرحلات وغيرهاوالشق الثاني هو العلوم الطبيعية الذهنية منها والتجريبية ، فوجدت أن الكتاب قد تناولوها بأنماط مختلفة كالتدوين العلمي والكتابة التعليمية والأدب العلمي والخيال العلمي والتوقع والتنبؤ والاكتشاف والاختراع والتفكير العلمي والشعر العلمي والموسوعات العلمية ، والثقافة العلمية ،وقد أفردت ما يشبه الفصل عن الأدب العلميفي هذا السياق عرضت لأكثر من مائتي كتاب بالنقد والتحليل ، وحاولت أن أشمل بها كل الموضوعات وكل الكتاب ، كما أطبق عليها كل المقولات التي ذكرتهاوفي النهاية وضعت كشفا لما يقرب من ألف وثمانمائة عنوان ، مبوبة حسب الموضوعات التي ذكرتها ، ومرتبة حسب مؤلفيها ترتيبا هجائيا ، وهي الكتب الصادرة حتى أواخر عام 2010ملاحظات خارج النص1- هذا الكتاب يغطي إنتاج أدب الطفل الصادر حتى 2010 ، وبذلك يكون في إحدى توصيفاته كتابا وثائقيا 2- لا يمكن أن ادعي أني أحطت بكل شاردة وواردة ، فلا بد أني اقترفت من الهفوات التي لن تقدح في بنيان هذا لكتاب ، ولكني اكتفي بأني أوجدت بانوراما يمكن لأي دارس أن يطل منها على أدب الطفل الأردني ، من كافة جوانبه . 3- وما زلت احلم مذ انتهيت من تسطير هذا الكتاب ، أن أجعل له جزءا لاحقا ، وإن لم يبق في العمر بقية ، أتمنى على الله أن يبعث في الأجيال القادمة ما ينوب عني أو يتابع سيري .