مذ غادرت الطفولة غادرت منتجعاً كان مهداً لها في( سنجل )، وما حملت معي إلى عمان إلا حقيبة الذاكرة، ممتلئة كِسَفاً متناثرة من الشخوص والأماكن والأحداث، وعواطفَ مسبغة على أشياءٍ ولا أدري لماذا، ومنزوعة عن أخرى ولا أعلم لها سبباً ، وكنت قد حَشَوتُ ذاكرة تطمح إلى الامتلاء بأشياءٍ لا انتظام لها، وها أنا في خريف العمر، أحاول أن أبحث في...
قراءة الكل
مذ غادرت الطفولة غادرت منتجعاً كان مهداً لها في( سنجل )، وما حملت معي إلى عمان إلا حقيبة الذاكرة، ممتلئة كِسَفاً متناثرة من الشخوص والأماكن والأحداث، وعواطفَ مسبغة على أشياءٍ ولا أدري لماذا، ومنزوعة عن أخرى ولا أعلم لها سبباً ، وكنت قد حَشَوتُ ذاكرة تطمح إلى الامتلاء بأشياءٍ لا انتظام لها، وها أنا في خريف العمر، أحاول أن أبحث في هذه الحمولة الأثيرة، كما يفعل الباحث الأثري مع ملتقطاته التي وافته صدفة ، أعالجها بالحميمية التي تستحقها، استشعر نبضها الساحر في عروقي، وأسائل نفسي عن سر دغدغاتها لي، وأحاول أن أبعثها من غيابها، لأجعلها تضيء فرحا في نفسي وفي أنفس الباحثين عن ظل تستعيره من الماضي.تصوروا معي ذاك الطفل المتسكع في الأزقة المتربة، ينصت ببراءة لحوارات الكبار على جوانب الطرق وفي مجالسٍ مرتجلة تحت شجرةٍ أو في حائط، على حجارة مصفوفة بتناثر، وعلى أسطحٍ للسمر الصيفي، تصوروا طفلاً تفتح ذهنه على كلمات ومصطلحات يحاول جهده أن يفهمها، مثل أمريكا، واليورك ومرسيليا، وسفر برلك، وسنة المهاجرة، كلمات يلتقطها ولا يعرف كنهها، كما يلتقط إيُ طفل أشياءَ يشبع بها رغبته بالامتلاك. وتصوروا معي ذاك الحزنَ الطاغي الذي يستشعره طفلٌ من مآسي الفراق التي تبديه نسوة يُودِّعنَ بلوعةٍ أزواجهن وأولادهن وإخوتهن صبيحة ذات يوم إلى المجهول، لنرى بعد أيام فرحاً طاغياً يملأ القرية سروراً وبهجة بعائد من المهجر، وما يتلوا ذلك من أحاديث وأخبار يطل السامعون منها على أناس وحضارات وعجائب وغرائب، هي أقرب للخيال، أو هي الخيال ذاته.تصوروا ذاك ( الغلامَ )أيضا، إذ يرفض تلويث تلك الصورة الأولية التي رسمها طفلاً، بما استجد له خلال نصف قرن، وابقى على هذه النتف التي التقطها جزافاً، تتخمر خلال عقود خمس، لتحولها كيمياء الخيال قصصا مترعة بالعاطفة والحنين .في هذه المجموعة من الحكايات لا أعيد بها سرد ما سمعته، إنما أحاول جهدي أن أتقمص ذاك المغترب الذي يحاول إبهار السامعين برواياته، بل يبهر طفلا أتقمص أنا شخصيته أيضاً، وأنتقي من أحاديثه ما يمتعني، وفي نفس الوقت لا أنسى شروط القصة وسلامة بنائها.إن الخيال المجنح صوب المبالغة، نزعة أصيلة في النفس، صيغت به الأساطير، بل هو الذهن الذي أسطر الواقع، ومنحه العمر المديد، وصار نوعا من أنواع الأدب الساحر، والخالد، هو نادر في أدبنا العربي، رغم أن شاعراً أموياً هو أبو حية النميري، الذي كان يُتَّهم بالجنون أو السخف حينما يتكلم عن سيفه الخشبي المسمى لعاب المنية، أو حينما يطلق سهمه نحو غزالة فيتبعها السهم في مراوغتها وكأنه صاروخ بتريوت، أو حينما يلحق بسهم أطلقه فيمسكه قبل أن يصيب الغزالة التي تشبه حبيبته، لقد كان فنانا لكنه كان يتلو مزاميره على من لا يفهمها، ربما كان له صنوٌ في اسبانيا وهو ميجيل سيرفاتس حيث أبدع شخصية دونكيشوت ورفيقه سانشو، التي هي وشخصيات أبي حية النميري من طينة واحدة، مبنية من المتناقضات الكاريكاتيرية. إنها المبالغة التي لاغنى عنها، في تأكيد المعنى وترسيخ المفهوم لدى السامع، بل هي بديل للحجة المنطقية، التي غالباً لا يتمثلها المتلقي، فنستعملها في فن الكاريكاتير السياسي والاجتماعي الناقد والساخر، والخطاب الدعوي، ولكن قلما نستعملها في الأدب الذي نريده دائماً وقوراً وجاداً.ولتتقبل مني قريتي ( سنجل) هذه المداعبة التي يتبادلها المحبون، حينما جعلتها موطناً لهذه الحكايات الضاحكة، والشخصيات الفهلوية، فلطالما تمنيت أن أسجل ظاهرة الاغتراب بشكلها الإيجابي، الخالية من دموع الفراق ولوعته، حيث كانوا مغامرين شجعانا حين ضاق بهم العيش في أوائل القرن الماضي، ذهبوا غريبي اليد والوجه واللسان، فعادوا بحكايات ممتعة وأموالٍ أقامت الأود، وثقافة أشاعوها بيننا، أشعرونا بروابط من القربى تجمعنا وتلك الشعوب البعيدة. وها أنا أكتب عن شخصيات تختلق الحكايات الخارقة وتجترح البطولات الأسطورية كما لو تكون بديلا لضعف اعتراها أو نقص جُبلت عليه، ومن مستمعين يجيدون الاستماع ويقدرون الدعابة ويتفاعلون مع القصة كأنهم حيال مسرحية يشارك فيها الجمهور.فقد جعلتهم أيضا يطلّون على العالم بشجاعة واقتدار، يتعالون على جراحهم وفشلهم وانكسار أحلامهم، لعل القراء يطلّون يوما عليهم كما يطلّون اليوم على إقليم ( لامانشا) موطن دونكيشوت الإسباني، وعلى حواري القاهرة في أعمال نجيب محفوظ.وللذين يحبون الرمزية، فإنهم يرون فيها إشارة إلى أعظم آفات المجتمع الذي نعيشه، ثقافة الفهلوة والقفز على الأكتاف واستغباء الآخرين، وثقافة الاستعراض والغطرسة وتعظيم الشخصية أو تقديسها، وكيف نتقبل متخيلا يفوق المألوف في أذهاننا.وأخيرا أرجو التأكيد على أن الشخوص والأحداث كلها مختلقة، ما عدا نتفا من بعض الشخصيات والأحداث راكبتها لتوائم بناء القصة، وما تبقى هو من صنع الخيال، وأعتذر جداً إذا ما رأى أحدٌ تطابقاً ما بين الحقيقة والخيال.سعادة أبو عراق