في تاريخ البشر فترات، تسجل فيها بعض الشعوب والجماعات انتفاضات لها، أن دلت على شيء إنما تدل على ما اكتسبه أولئك من تجارب جديدة وما بلغوه من درجات في التطور، تجعلهم يقفون معها على حقائق في الحياة، ومبادئ في الاجتماع، ونظم في السياسة، تدفع بهم جميعها خطوات واسعة إلى الأمام وترفعهم درجات عدة فوق سلم الرقي والحضارة.هذا وكثيراً ما يقا...
قراءة الكل
في تاريخ البشر فترات، تسجل فيها بعض الشعوب والجماعات انتفاضات لها، أن دلت على شيء إنما تدل على ما اكتسبه أولئك من تجارب جديدة وما بلغوه من درجات في التطور، تجعلهم يقفون معها على حقائق في الحياة، ومبادئ في الاجتماع، ونظم في السياسة، تدفع بهم جميعها خطوات واسعة إلى الأمام وترفعهم درجات عدة فوق سلم الرقي والحضارة.هذا وكثيراً ما يقابل تلك الانتفاضات، نكسات عند قوم آخرين، لتعود بهم القهقرى في مجالي التطور المضاد، وينقضي بهم العهد، فيطويهم الزمان، ويواريهم النسيان اللهم إلا إذا كان لهم من الحيوية والأصالة ما يساعدهم على استرجاع مكانتهم في التاريخ والعودة ثانية إلى المسرح العالمي العام ليحملوا رسالة إلى الإنسانية من جديد...وهكذا نرى كيف أن التاريخ يتخذ سبيله بين مد وجزر يتناوب فيهما أمم الشرق والغرب قيادة البشر إلى مثل عليا وقيم ومفاهيم جديدة لا عهد لهم بها من قبل.ومن هذه الفترات، ذات الأثر الفعال في تحويل مجرى التاريخ، تلك التي تم فيها هجوم الإفرنج في نصارى الغرب في أوروبة، على الغرب من مسلمي الشرق إبان القرون الوسطى، ذلك الهجوم الذي ظل كأمواج البحر تتلاطم بين امتداد وانكفاء على شواطئ ديار الشام ومصر وشمالي افريقية مدة لا تقل عن مئتي سنة، حتى إذا ما انتهى بالهزيمة المنكرة تنزل في الغزاة المعتدين، ارتد هؤلاء ليعودوا إلى بلادهم يحملون مع الأسلاب والغنائم ما أبدلتهم الأيام معه، بالجوع شبعاً وبالظلمة نوراً وبالجهل علماً وبالتعصب تسامحاً.أما حظ الشرق العربي من ذلك الكفاح، فكان أن ساده الهجوع بعد ما أصابه لطول جهاده، الكثير من الإعياء والنصب، فكان أن خيم على أقطاره صمت رهيب، عم المدن والعواصم فيه الجمود وراح أهلوه يكتفون باجترار ما حلفه لهم الأجداد من علوم وشرائع وفنون وآداب، فغرقوا نتيجة لذلك في بحار الجهل والتقليد على أثر ذلك الجزر العميق.ولما كانت هذه المغامرات بفضل ما انجلت عنه من نتائج، للغرب، إيجابية، وأخرى، للشرق، سلبية حرية بإدامة النظر فيها، وإطالة التفكير بأسبابها، والإكثار من التأمل بمخلفاتها، فقد شاء الدكتور "زكي النقاش" أن يأخذها موضوعاً لهذه الدراسة التي يضعها بين يدي القراء من أبناء العروبة، علهم يجدون فيها شيئاً من المتعة الفكرية أو يجنون منها بعض العبرة المجدية.أما سبيله في تحضيرها واستكماله لعناصرها، فكانت أن أعدها في فصول ثلاثة، قام في الفصل الأول منها بجولة بين بها، ماهية الحروب الصليبية أو تلكم الهجمات الإفرنجية، وما تم بسببها من نتائج سياسية وعسكرية، أما الفصل الثاني فضمنه وصفاً مسهباً للحالة الاجتماعية في كل من الشرق والغرب، ثم اتبع بها الفصل الثالث، فاستعرض فيه ما تبادله الفرنجة مع العرب من علاقات اجتماعية وثقافية واقتصادية وختم البحث بخلاصة أودعها آراء عنت له وأفكاراً تزاحمت في ذهني فسجلتها عل فيها بعض الفائدة.