سار عبد الباسط في مقدمة المشيعين لجنازة أبيه، قدماه لا تكادا تحملانه، كأنهما عودان من الخوص المفرغ. داخله إحساس مريع بالضياع، فلم يكن أبوه مجرد أب لابن؛ بل كان المعلم والموجه في أمور دنياه، وشيخه وإمامه في أمور دينه.. أدخله المدارس الأزهرية منذ طفولته المبكرة، حتى حصوله على الثانوية الأزهرية بتفوق، ومن الأوائل.. ترك له حرية اختي...
قراءة الكل
سار عبد الباسط في مقدمة المشيعين لجنازة أبيه، قدماه لا تكادا تحملانه، كأنهما عودان من الخوص المفرغ. داخله إحساس مريع بالضياع، فلم يكن أبوه مجرد أب لابن؛ بل كان المعلم والموجه في أمور دنياه، وشيخه وإمامه في أمور دينه.. أدخله المدارس الأزهرية منذ طفولته المبكرة، حتى حصوله على الثانوية الأزهرية بتفوق، ومن الأوائل.. ترك له حرية اختيار نوعية الدراسة التي يرغبها، دون فرض منه أو أي محاولة للتوجيه.. وكانت المرة الأولى لعبد الباسط، التي يتركه فيها أبوه ليختار. كل ما بداخله صرخ في إلحاح أن يصارح أباه برغبته في دراسة العلوم.. فقوانين الكون وأسراره تجذبه جذبًا شديدًا ممتعًا.. يشعر بذاته مع قوانين الجاذبية، ونسبية أينشتين، وعلوم الفلك والمجرات والشمس والقمر وحركة النجوم.. وظواهر الطبيعة من رياح وبرق ورعد وقوس قزح. لكنه كان يشعر أن أباه يرغب في إكماله دراسته بكلية الشريعة، فتردد في مصارحته برغبته تلك التي تسيطر عليه بجنون العالم بداخله. لم يكن يدري وهو في دوامة تفكيره تلك أن أباه يحدق في وجهه مبتسمًا، حتى ربت على كتفيه بحنان، ليخرجه من دوامته، وتنبه على صوته وهو يقول له.. إذًا هي كلية العلوم.. على بركة الله، والخيرة فيما اختاره الله.. نظر عبد الباسط إلى أبيه مذهولًا، وهو يحدث نفسه.. كيف علم أبي برغبتي تلك؟.. وأنا لم أصرح له بها.. انتابه الذهول ثانية، وأبوه يجيب على سؤاله مبتسمًا.. علمت برغبتك عندما وضعت يدي على كتفك، فحدث الاتصال بيننا. ارتبك عبد الباسط من كلام أبيه العجيب، وهمس لنفسه.. أي اتصال هذا الذي حدث بيننا؟!.. ابتسم أبوه، وبنبرة عطوفة، وهو يضع يده على كتفه.. اهدأ يا بني، واسمعني جيدًا.. لقد تخطيت الآن الثامنة عشرة، وحان الوقت لتعرف كل شيء عن نفسك.. أعرف ماذا عن نفسي؟!.. ما حباك الله به من نعمته ورضاه.. لقد وهبك الله قدرة وقوة روحية، لتساعد بها البشر، وتجابه بها شياطين الجن والإنس، وإبليس وأتباعه ومريديه من الإنس، الذين يعيثون في الأرض فسادًا.. لم أفهم شيئًا يا أبي.. أي قدرة وأي قوة روحية تلك؟ اهدأ واستمع لي جيدًا.. أنا أعلم أن ما ستسمعه سيقاومه عقلك؛ ولكن اسمعني بقلبك الطاهر، التي لم تدنسه خطيئة ولا ذنب يغضب ربك، فيضيع منك هبته التي وهبها لك. لقد قمت بواجبي نحوك ونحو هبتك، وحافظت عليها وعليك طوال تلك السنوات الماضية من الدنس والرجس، وحرصت على ألا تزل قدمك للخطيئة أو يجرك إبليس الملعون لطريقه، وأنت ما زلت في عمر المراهقة، التي تضعف فيها النفس، ويزين فيها إبليس طريق الخطيئة والرزيلة للإنسان، فيجعلك تخسر تلك الهبة، التي حباك بها الله، أو تضعف..