"حميدة نعنع" بنت عصرها لدرجة مذهلة: إنها في كل مكان يقع فيه حدث مهم. تلاحظ كل شيء، وتراقب كل فعل، ولا تسمح لعينها بأن تغمض ثانية واحدة عما يجري بحق الإنسان، له أو عليه، وتحاسب اللحظة الراهنة وهي تنزلق في اتجاه التاريخ، ولا تنساها وتجعلنا معها لا ننساها نحن أيضا وتتراكم دفاترها.ولصاحبة هذه الدفاتر قدرة عجيبة على أن تجد نفسها مع ر...
قراءة الكل
"حميدة نعنع" بنت عصرها لدرجة مذهلة: إنها في كل مكان يقع فيه حدث مهم. تلاحظ كل شيء، وتراقب كل فعل، ولا تسمح لعينها بأن تغمض ثانية واحدة عما يجري بحق الإنسان، له أو عليه، وتحاسب اللحظة الراهنة وهي تنزلق في اتجاه التاريخ، ولا تنساها وتجعلنا معها لا ننساها نحن أيضا وتتراكم دفاترها.ولصاحبة هذه الدفاتر قدرة عجيبة على أن تجد نفسها مع رجال الدولة، من أكبرهم شأناً إلى أصغرهم، وفي بلاد قد لا يخطر في البال، أنها تواجه ذوي النفوذ وأهل الربط والحل، وقد تسلحت بمعرفة دقيقة لخلفياتهم، وأفكارهم، ومواضيعهم- وتسلحت في الوقت نفسه بمعيارها النقدي الذي لن تتنازل عنه: حبها لوطنها وقومها، أينما كانت مدن الغربة.ومن خلال ذلك فإن اهتمامها الأعمق يبقى في الناس، هؤلاء العائشين شاؤا أم أبوا في ظل الكبار، وهم في النهاية الحقيقيون الوحيدون.غير أنها ليست فقط عاشقة وطنها، والباكية عليه، وصاحبة القدرة على مساءلة أولئك الذين تراهم يصنعون أوطانهم أو يدمرونها. إنها إلى ذلك كله امرأة خاصة جداً، امرأة تنظر في دواخل نفسها اللاعجة أبداً، العاشقة ابدأً. بل هي شاعرة عشق ليس من نهاية لفرحها وذهولها و فجيعتها، مدفوعة بروعة الأشياء ومأساويتها معاً. يجتذبها العشاق أينما كانوا، تلتهب حماساً لهم، ودفاعاً عنهم وتذوب أسىً عليهم."وحميدة نعنع" في كل سطر تكتبه، تذكرك بأنها امرأة، امرأة قبل كل شيء، إنها تضع الأنثى إزاء الآخرين جميعاً، لتؤكد أن دورها ليس حيادياً، وليس بين بين، إنه موقف امرأة جارفة الإحساس، نافذة الذكاء، تجاه مشكلات العصر ونكبات الإنسان مع يقظة ذهنية متوقدة تتميز بالانفتاح على كل إمكانية، مع التأكيد على تمحيصها بقبولها أو رفضها، عقلانياً.ودفاترها تشف دائماً عن تزاحم الماضي من خلال الحاضر وليس ثمن فيه ما ينسى، وهي تشف كذلك، وباستمرار، عن تزاحم الشرق والغرب، وصراعهما بلا هوادة، مع حس حاد يتمايز الشرق والغرب، وحسّ حاد كذلك بتداخلهما: قطبين متجاذبين متنافرين، في مزيج هائل من الحب والكراهية، مزيج عشق لذيذ، ومعذب، في آن."أنا امرأة عربية اختارت الكتابة بديلاً عن الأحلام السياسية، فوجدت نفسها وسط عالم غابات لا تعرف كيف تكسر أغصانه" ولكنها ترفض أن تريد عن هذه الغابات الملتفة الأغصان، لأنها بمحاولتها اخترقها إنما تكتشف ذاتها، فيزداد عزمها على التشبث بهذه الذات، وتخاطب العربي من كثافات هذه الغابات الخطرة الغادرة، وكأنها تخاطب نفسها: "عربي أنت حي الجنون، وهذا هو مجدك... عربي حتى الغموض، والقدرية، والضياع، والحرية، والسجون... والكلمات الممنوعة... جربت زمن الصمت وعدت تمطر لغة.. جربت زمن الخوف وعدت تمطر سيوفا... جربت زمن الحرمان وعدت تمطر حباً...".