لحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله الكريم المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد.. أولاً: موضوع الدراسة مما لاشك فيه أن الإجرام ظاهرة اجتماعية تمس كيان المجتمع وبقاءه وتهدد أمنه واستقراره، وصار لزاماً على السلطة العامة دستورياً، وقد آل إليها حق العقاب، أن تتولى مكافحة الجريمة بمختلف التدابير ...
قراءة الكل
لحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله الكريم المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد.. أولاً: موضوع الدراسة مما لاشك فيه أن الإجرام ظاهرة اجتماعية تمس كيان المجتمع وبقاءه وتهدد أمنه واستقراره، وصار لزاماً على السلطة العامة دستورياً، وقد آل إليها حق العقاب، أن تتولى مكافحة الجريمة بمختلف التدابير والوسائل الممكنة، تبعاً لطبيعة وظيفة الدولة التي تمثل أحد مبررات وجودها، وفلسفة العقاب التي تؤخذ به. وهو إلزام بإقامة العدالة في المجتمع وحسن توزيعه بين المواطنين، ذلك أن واجبها لا يقتصر على تقرير الحقوق في قوانينها وإنما يجاوز ذلك إلى اعطاء هذه الحقوق الفعالية والتطبيق عن طريق قضاء يخضع بدوره لرقابة القانون لتحقيق الشرعية الجزائية. ويرجع ذلك إلى التطور الحضاري للمجتمع الذي أدى إلى إنكار دور الفرد في إقامة "قضاء خاص"، وإلى حرمان المجني عليه من حقه في الانتقام الفردي من الجاني، ومن ثم فقد أضحى لزاماً لحماية مصالح المجتمع أن تباشر السلطات العامة نشاطاً تستهدف به تحديد المسؤول عن الجريمة وإنزال العقوبة أو التدبير الاحترازي الذي تراه رادعاً له وزاجراً لغيره، إلا أن الدولة لا تباشر حقها في توقيع العقوبة مباشرة على مرتكب الجريمة، ولكنها تنزل عن سلطتها هذه إلى تنظيم قانوني يحترم القيم الحضارية والحقوق الأساسية للإنسان التي تقوم على افتراض براءته، وعدم جواز معاقبته دون دعوى جزائية أمام قاضيه الطبيعي، مع قانونية إجراءاتها ووجود قضاء مستقل يشرف عليها، مما يشكل تحقيقاً للشرعية الجزائية بجميع أركانها وعناصرها، حيث يجب أن تخضع جميع الأعمال الجزائية لتنظيم القانون من حيث شروط صحتها وآثارها. فظهر جهاز الادعاء العام، كأحد أجهزة الدولة المسؤولة عن ضمان الأمن الجزائي، وضمان سلامة تطبيق القواعد القانونية السائدة، باعتباره وسيلة وأداة هامة لحماية شرعية الإجراءات الجزائية. وقد نشأ هذا الجهاز من خلال التطور التاريخي للتشريعات الإجرائية ابتداءً من نظام الاتهام الخاص أو الفردي الذي كان مطبقاً في العصور القديمة عند اليونان والرومان، الذي كان بمقتضاه يحق لكل فرد أن يتولى الادعاء بنفسه أمام القضاء، حتى نظام الاتهام العام الذي يضطلع به جهاز خاص بالنسبة لطائفة معينة من الجرائم التي كانت ترتكب أضراراً بمصالح الملك أو السلطة العامة، إلى أن بلغ التطور مرحلة الاتهام العام عن طريق ممثل للدولة في كافة الجرائم العامة والخاصة على حدٍّ سواء دون انتظار لتدخل من أحد الأفراد أو رضائه. ويتولى الادعاء العام مهمة تحقيق الشرعية الجزائية التي تعتبر إحدى صور الشرعية بوجه عام، بوصفه جهازاً من أجهزة الدولة لا شخصاً متنازعاً مع المتهم، ومعنى ذلك أن الادعاء العام يتولى في الادعاء الجنائي وظيفة ذات سلطة ولا يمارس حقاً شخصياً خاصاً به، إن أراد باشره أو تخلى عنه. فله سلطة الرقابة على شرعية الإجراءات الجزائية، وعليه واجب تحقيقها من خلال دوره في المراحل المختلفة في الخصومة الجنائية، التي منحها المشرع الإجرائي له في الدعوى الجنائية وكلاهما متلازمان، وسلطته أو واجبه في الادعاء، سواء في المواد الجنائية أو المدنية يخضع دائماً لاعتبارات الصالح العام ومقتضيات الحقيقة، وحماية النظام القانوني والاجتماعي للدولة الذي أخل به ارتكاب الواقعة الإجرامية. وعليه تتناول دراستنا هذه الجوانب المتعلقة بدوره في الخصومة الجنائية إضافة إلى سلطة في الرقابة التي تختص في سبيل تحقيق الشرعية الجزائية ببعض السمات التي تميزها عن غيرها، فهي رقابة على المشروعية وليست رقابة ملاءمة، وبذلك تختلف عن الرقابة الإدارية، كما أنها رقابة قانونية تختلف عن الرقابة على دستورية القوانين المرتبطة بمدلولات سياسية تحكم حركة الدولة، فضلاً عن أنها رقابة ذاتية لا يحتاج إجراؤها إلى ورود شكوى أو طلب.