يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي في كتابه الرائع "تجربتي الشعرية": "إذا كانت الطفولة والوراثة قد حكمت على بعض الشعراء بالموت المبكر، فطفولتي أنا قد حكمت علي بالصمت، والرحيل والانتظار، فمنذ عام 1926 وهو عام مولدي، وأنا في طريقي إلى المدينة التي لم أصلها بعد. والغريب أن السفر الذي هو قناع الموت والميلاد هو الذي كان يخسر اللعبة وكنت ...
قراءة الكل
يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي في كتابه الرائع "تجربتي الشعرية": "إذا كانت الطفولة والوراثة قد حكمت على بعض الشعراء بالموت المبكر، فطفولتي أنا قد حكمت علي بالصمت، والرحيل والانتظار، فمنذ عام 1926 وهو عام مولدي، وأنا في طريقي إلى المدينة التي لم أصلها بعد. والغريب أن السفر الذي هو قناع الموت والميلاد هو الذي كان يخسر اللعبة وكنت أنا الذي أربحها دائماً".فهذه الكلمات الموجزة ملخص حياة شاعرنا الواقعية أبلغ تلخيص، ذلك أن عبد الوهاب البياتي قد ظل في حالة رحيل دائم من بلد إلى بلد وكان في كل رحيل يكسب الجولة دائماً بإبداعات جديدة متميزة، وفكر يأخذ خطه من النمو والتطور، وتجارب عميقة تضاف إلى تجاربه الثرية المتنوعة، وصلات أكثر وثوقاً بالحركات الأدبية والشعرية في العالم، وصداقات حميمة جديدة مع كبار الكتاب والمبدعين تضاف أيضاً إلى رصيده الضخم في هذا المجال. وأكثر من هذا وذاك كان البياتي-ومازال-خلال هذه الرحلات المتواصلة يعمق معرفته بالناس وبالواقع وتزداد رؤياه للكون وللإنسان شمولاً ونضجاً وحيوية.وكانت إسبانيا هي المحطة الأخيرة-حتى الآن- في حياة البياتي، قدم إليها عام 1980 ومازال يقيم في عاصمتها مدريد، لكن ارتباط البياتي بإسبانيا لم يكن وليد تلك اللحظة التاريخية في أول الثمانينيات أو هذه الإقامة الخصبة التي شهد خلالها ترجمة عدد كبير من دواوينه إلى الإسبانية وإنما بدأت صلته بإسبانيا والأندلس منذ فترة مبكرة من حياته الشعرية، بل إنه كان ينفعل بكل ما يجري في أمريكا اللاتينية (التي تتحدث بالإسبانية)لدرجة أنه آمن في فترة من الفترات بأن الثورة الحقيقية تنبع من هناك، وأن بطلها المشهور نشئ فيفارا هو البطل الأمثل الذي تخطى بنقائه وسموه وثورته أبطال سارتر ومالرو والبيركامي.كما أن شعراء إسبانيا وأمريكا اللاتينية الكبار كان لهم خط كبير في حساباته الإبداعية والنقدية. نلاحظ ذلك في دواوينه منذ المرحلة الأولى حتى كتابه الأخير, وفي كتابه "تجربتي الشعرية" تحدث عن شعراءه المفضلين من المعاصرين والمحدثين فذكر أودن، ونيرودا، وإيلوار، وناظم حكمت، ولوركا، والكساندر بلوك وماياكوفسكي، شعراء من كل البلاد ومن كل الأجناس اثنان منهما من إسبانيا، وأمريكا اللاتينية هما فيديريكو جارثيا لوركا وبابلونيرودا.وقد علل البياتي هذا التفضيل بأن أشعارهم تحمل جوهر الشعر الحقيقي، وتحمل قدرة النفاد من خلال الموسيقى والصورة والرؤية إلى وجدان الإنسان المعاصر لأنها تنبع-بأبعادها الثلاثة هذه-من تصور نفس هذا الإنسان المعاصر لذاته ولواقعه، إلا أنها تحتوي على نوع من الالتزام الواعي الحي النابع من داخل نفوسهم. كما وجد في أشعارهم كل خصائص بلادهم وقسماتها، واستطاع أن يتصور النظرة الشمولية في شعرهم.وفي هذا الكتاب حديث عن تجربة البياتي في إسبانيا، وذلك من خلال قراءات دونها بعض الأدباء والصحفيون عن تجربة البياتي حللوا من خلالها آراءه وتجربته ونظرته للأدب وقراءاته لواقع الشعر العربي في عصره.