زدني علماً: المذاهب الاقتصادية

يشبه تطوُّر الفكر الإقتصادي، الإقتصاد السياسي تمام الشبه، وللباحث أن يتناوله من إحدى وجهات نظر ثلاث: أ- إما على صعيد التحليل النظري، فيدرس المؤلفين الذين بذلوا جهوداً خاصة لإلقاء النور على ميكانيكية النشاط الإقتصادي، وشرح الأحداث الإقتصادية، وبيان ما بينها من علاقات، وربط الأسباب بالنتائج، وتوضيح مفاهيم المعرفة الإقتصادية، وعرضها على حقيقتها؛ ب- أو من وجهة النظر المذهبية، فيتتبع تسلسل التيارات الفكرية ويلاحقها على آثارها، ثم لا يقف عند هذا الحد، بل يشرحها شرحاً بقيّمها في تفاعلاتها ضمن بعض المعتقدات الدينية، فيؤيد - على ضوء هذه الأحكام - بعض المقاييس ويرفض سواها؛ ج- أو على الصعيد المدرسي، فيدرس تطبيق مختلف السياسات الإقتصادية على التتابع، وتوضُّعها ضمن الأحداث وضمن البرامج، وتأييد بعض التشريعات لها، وما انبثق عنها من نتائج، بالملاحظة والتفكير والمقارنة؛ على أنه يستحيل تفكيك هذه النقاط الثلاث بعضها عن بعض وبحث كل واحدة منها على حدة، لأنها ذائبة بعضها في بعض ذوباناً عميقاً، يجعل إفرادها بالبحث صعباً دقيقاً...والإقتصاد علم كسائر العلوم، لا يجزأ تجزئة كيفية، لكن تمكن مواجهته من زوايا مختلفة، ورسم صور متباينة له، غير أنها عند التحقيق، متكاملة لا متغايرة؛ بهذا التحفظ وضع هذا الكتاب حيث تركز البحث فيه تركيزاً دقيقاً حول الظواهر المذهبية لتيارات الفكر الإقتصادية الكبرى، وهذه الظواهر هي: تاريخ النظريات، وتاريخ النظم الإقتصادية، فالنظريات هي الأساس الضروري التي تقوم عليه النظم، لتصبح إمتداداً طبيعياً لها.وسيرى القارئ في القسم الأول من هذا الكتاب، كيف أخذ التطور الإقتصادي طريقه من الشيوعية الأرستوقراطية لدى الفلاسفة الأقدمين، إلى الفردية المتحررة لدى المؤلفين الإتباعيين (Classiques) في القرن الثامن عشر؛ اما في القسم الثاني فسنطالع كيف عادت الشيوعية في القرن التاليق بنمط جديد، هو شيوعية المساواة، أو شيوعية مجتمع بلا طبقات، على الأقل؛ وسيشرح القسم الثالث والأخير، كيف انتهى التطور في العصر الحديث، إلى إنسانية إقتصادية، تصرُّ على تطوير البشر تطويراً إنسانياً متناسقاً ضمن الجسم الإجتماعي، وتأبى إستغلال بعض الكتل الإجتماعية كتلاً أخرى سواها، أو إستبعاد الدولة أفرادَها إستعباداً طاغياً.