أُنزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والعلاقاتُ الأسريَّة في فوضى وانحلال عظيم،كما بيَّنَتْ كتب التاريخ[1]، فكان من بين أهداف القرآن السامية: إنقاذُ البشرية من هذا السوء وهذا التفسخ الصارخ؛ لذا لما ندقق النظر في القرآن الكريم نجده يجعل الأسرةَ هي وحدة بناء المجتمع، وأحاطها بسياجٍ كبير من التشريعات والأخلاق التي...
قراءة الكل
أُنزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والعلاقاتُ الأسريَّة في فوضى وانحلال عظيم،كما بيَّنَتْ كتب التاريخ[1]، فكان من بين أهداف القرآن السامية: إنقاذُ البشرية من هذا السوء وهذا التفسخ الصارخ؛ لذا لما ندقق النظر في القرآن الكريم نجده يجعل الأسرةَ هي وحدة بناء المجتمع، وأحاطها بسياجٍ كبير من التشريعات والأخلاق التي تضمن لها الجديةَ والنجاح، والاستمرارية في تحقيق الاستقرار للمجتمع بأكمله.وزيادة على ما سبق، نجد أن القرآن جعل السبيلَ الوحيد لتكوين الأسرة هو الزواج، بالشكل الذي يحفظ الحُرُماتِ والأنسابَ، ويُلبِّي الغرائزَ الطبيعية في إطار من العفَّة والخصوصية، ويحقق لطرفي الزواج ما يبحثان عنه من السكن والاستقرار، وامتنَّ عليهما بإسباغ المودة والرحمة على تلك العلاقةِ الشريفة، وقد نبَّه القرآن على ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].وقد قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسير الآية: "ومن حججه وأدلته على ذلك أيضًا خلقه لأبيكم آدم مِن نَفْسه، زوجةً ليسكن إليها، وذلك أنه خلق حواء من ضلعٍ من أضلاع آدم،خلقها لكم من ضلع من أضلاعه،وجعل بينكم بالمصاهرة والختونة مودةً تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، ورحمةً رحمكم بها؛ فعطف بعضكم بذلك على بعض، إن في فعله ذلك لعِبَرًا وعظاتٍٍ لقوم يتذكرون في حجج الله وأدلته، فيعلمون أنه الإله الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يتعذر عليه فعل شيء شاءه"[2].ويقول سيد قطب - رحمه الله - حول هذه الآية:والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابَهم ومشاعرهم تلك الصلةُ بين الجنسين، وتدفع خُطاهم وتحرِّك نشاطَهم تلك المشاعرُ المختلفةُ الأنماطِ والاتجاهات بين الرجل والمرأة، ولكنهم قلَّما يتذكَّرون يد الله التي خلقتْ لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعتْ نفوسَهم هذه العواطفَ والمشاعر، وجعلتْ في تلك الصلة سكنًا للنفس والعصب، وراحةً للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأُنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء.والتعبير القرآني اللطيف الرفيق، يصور هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: ﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾، ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، فيدركون حكمة الخالق في خَلْق كلٍّ من الجنسين على نحوٍ يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية، وعقلية، وجسدية؛ بحيث يجد عنده الراحةَ والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكنَ والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظٌ فيه تلبيةُ رغائب كلٍّ منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية، لإنشاء حياة جديدة، تتمثل في جيل جديد[3].و من هنا، فإنّ واقعنا المعيش يفرض علينا إعادة النظر في تكوين الأسرة المسلمة الحقة، بعد تعرضها لهجمات من شتى الجهات، جعلتها تفقد دورها المنوط بها، ووجدنا أُسَرًا مسلمة، صورة لا حقيقة، تبحث عن فستان لها في حقول المعرفة التغريبية؛ مما جعلها تصاب بانفصام عميق في شخصيتها.هذا وغيره دفعنا لنبحث عن: كيف نظر القرآن الكريم لهذه الأسرة؟ وكيف نظر لأصول تكوينها وتفرعها؟هذا ما سيقف عنده البحث من خلال تتبع مفاهيم الأسرة في القرآن وأصول تكوينها وتفرعها؛ لنخلص إلى نظرية قرآنية حول نظام تكون الأسرة [4].