عودة إلى الأيام الأولى

"أعداد هائلة من العسكر الأمريكيين كانوا في منزل السيد فاضل ابن جعفر، وكذا أعداد من الوجهاء. موسيقى صاخبة ورقص... هتافات بالنصر. السيد ابن جعفر كان منتشياً وهو يرى الأمريكيين يرقصون ويغنون. قال وهو يراقب هذا الصخب: لله درّ هؤلاء الأمريكان... أبطال!! ثم طلب مني أن نذهب إلى صالة أخرى بعيداً عن الصخب والاحتفالات، حتى أصبحنا وحدنا قال لي: أحببت استشارتك يا دكتور في موضوع جاد. أجبت باحترام: تفضل. تحرك في مقعده الوثير متجهاً نحوي وقال: لقد قررت كتابة مذكراتي عن هذه الحرب. قلت مستغرباً: أي حرب أطال الله عمرك. قال وهو يبادلني الاستغراب: حرب الغزو العراقي للكويت وتحرير الكويت. حملقت به منبهراً، فواصل: اخترت عنواناً لكتابي هذا "مذكرات الأبطال في حرب الرجال" ... عنوان قوي أليس كذلك؟ ابتلعت المفاجأة، وسألته: حقيقة لا أعرف ماذا كنت تصنع خلال هذه الحرب، وما هي وظيفتك حتى تكتب مذكراتك عنها. اعذر جهلي سيدي، لكن أرغب في معرفة ماذا تكتب وكيف تكتب هذه المذكرات. أجاب ضاحكاً بقهقهة عالية: يا ناصر... يا ناصر... تعال اسمع يا ناصر... بصراحة الدكتور قال نكتة رائعة! يسألني يا ناصر ماذا كنت أصنع خلال الحرب وما هي وظيفتي؟ هل سمعت يا ناصر بنكتة أقوى من هذه؟ أجاب ناصر ضاحكاً بأدب: والله الدكتور طلع يحب المزاح رغم ما يبدو عليه من جدية! اعتدل السيد ابن جعفر في جلسته وعاد إلى حديثه: اسمع يا دكتور أنا أرغب أن أطلّع هذه المذكرات بعدة لغات: عربية، إنجليزية، فرنسية، ألمانية، إسبانية في البداية، وبعد ذلك نستكمل باقي اللغات. ما هو رأيك يا دكتور؟... التفت إلي بعد أن أنهينا المناقشة حول الكتاب، ابتسم وقال: أما نكتتك يا دكتور عن موضوع ما هي وظيفيتي؟ وماذا كنت أصنع خلال الحرب ليس مثلها شيء! كيف طرأت على بالك؟ لا أعلم! ابتسمت ولم أتكلم. غادرت منزل السيد فاضل بن جعفر. الرائد كوك فيشر بقيت لتكمل سهرتها هناك. شوارع الرياض تعج بالحركة. الظلام خيّم على مقبرة النسيم. "العروبة" تاهت بعد رحيل أبيها. أثرياء جدد أطلوا على الحياة بوجوه جديدة. الأمريكان غادروا الرياض... عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الغزو وقبل الحرب. لكن الرياض لم تعد إلى ما قبل الثاني من أغسطس 1990!!! شيء ما تغير".الدكتور منصور المختص بالأمراض النفسية القادم إلى مدينة الرياض لإجراء أبحاث في جنوب مدينة الرياض عن العوامل الاجتماعية ودورها المسبب في الأمراض النفسية، وكذلك عن دورها في الانتكاسات للمرضى النفسيين يفاجأ بمدى انغماس الأمريكيين المقتحمين في الرياض من أجل الحرب على العراق لتحرير الكويت في القضايا الاجتماعية الخاصة بالمجتمع السعودي. يواصل الدكتور منصور أبحاثه ودراساته الميدانية التي تكشف عن مدى تأثير ذاك الاقتحام الأمريكي للمجتمع السعودي بطريقة سلبية، كما تكشف تلك الدراسة الميدانية عن مدى الإحباط الذي أصيب به هذا الطبيب جراء اشتراك المواطن السعودي نفسه في مساعدة الأمريكيين ضد مجتمعه وذلك بفعل الانبهار الذي استبد بذاك المواطن من المحاربين الأمريكيين الذين كانوا بالنسبة له أبطالاً على الرغم من حربهم التي لقبوها بالتحريرية ضد إخوانهم العراقيين.