انسجاما مع الإطار الذي حدده أندري لالاند André Lalande للعمل الإبستمولوجيوالذي لاحظنا أنه لازال يحترم عند غالبية الباحثين، اخترنا أن يكون عملناإسهاما في الإجابة عن أسئلة محددة، هي: - ما هي المبادئ والفروض التي قامت عليها النظرية اللسانية المعاصرة، سواء في صورتها البنيوية أو في صورتها التوليدية؟ - ما هي النتائج التي حققتها هذه ال...
قراءة الكل
انسجاما مع الإطار الذي حدده أندري لالاند André Lalande للعمل الإبستمولوجيوالذي لاحظنا أنه لازال يحترم عند غالبية الباحثين، اخترنا أن يكون عملناإسهاما في الإجابة عن أسئلة محددة، هي: - ما هي المبادئ والفروض التي قامت عليها النظرية اللسانية المعاصرة، سواء في صورتها البنيوية أو في صورتها التوليدية؟ - ما هي النتائج التي حققتها هذه النظرية؟ أو ما الأسئلة الموضوعية التي ساهمت في الإجابة عنها؟ - ما طبيعة الأصول المنطقية التي تحكمت في بناء هذه النظرية؟ - ما القيمة المعرفية لهذه النظرية؟ أهي مجرد تراكم انضاف إلى تراكمات أخرى في نفس المجال أم أنها قفزة نوعية (ثورة) دفعت بالمعرفة العلمية إلى الأمام؟ تقتضي الإجابة عن السؤال الأول البحث في الأسس المعرفية والإبستيمات الكبرى التي قامت عليها النظرية اللسانية، مع الأخذ في الحسبان التمييز بين مفهومين منهجيين هما: - مفهوم المرجع، أو الإطار المرجعي؛ وهو مفهوم عادة ما يصرح به، مثلما نجد عند تشومسكي N.Chomskyالذي يصرح بمرجعياته فيحصرها في أفلاطون Platonوديكارت R.Descartesوبور-رويال Port-royal وهمبولدت W.V.Humboldt وبوبر K.Popper. .. أي في النحو الفلسفي والعقلانية بجميع صورها. - مفهوم الخلفية أو الأساس؛ وهو مفهوم لا يصرح به على العموم. وعلى الباحث الإبستمولوجي الكشف عنه وتعريته. ويحتاج هذا الكشف إلى الاستعانة بأدوات التنقيب الحفري التي لا تهتم بما هو أفقي أو تاريخي بقدر ما تهتم بما هو عمودي أو آثاري (archéologique). ما هو مهم، في هذه الحالة، هو اكتشاف أساس جديد ينضاف إلى أسس أخرى سبق اكتشافها من أجل إعادة بناء صورة لأصل مفترض أو أب روحي له من القدرة على التخفي ما يزيد من تعقيد المهمة ويجعلها صعبة المنال، وإن كانت غير مستحيلة. ومن المشاكل التي واجهتنا، في هذا الصدد، مشكل طبيعة أداوت التنقيب والاستكشاف هذه؛ فكيف يجب أن تكون؛ أنظرية أم إجراء مباشرا؟ لقد تعلمنا أن العمل المباشر ليس عملا علميا حتى وإن أتى بنتائج. كما تعلمنا أن العمل العلمي لا يمكن أن يكون إلا نظريا أو هو نتيجة لذلك. لكن، ورغم ما قد يبدو من أن المسألة ليست محل إجماع، فإنه لا يسعنا إلا أن نمتثل للعرف السائد، وأن نحتاط من التصورات التي تدعي عداءها للأسلوب النظري. فقد يكون اللانظري هو الوجه المتخفى للنظري. هكذا وجدنا نفسنا مجبورين على إقامة علاقة مع نظريات إبستمولوجية معروفة، نستفيد منها كأدوات لا كعقيدة.فإبستمولوجيا بياجي J.Piaget أفادتنا في تفسير التطورات الداخلية التي عرفتها النظرية اللسانية، كما أفادتنا إبستمولوجيا باشلارG.Bachelard في تحديد العلاقة بين البنيوية والتوليدية من حيث هي علاقة نفي وقطيعة أو علاقة استمرار. واستثمرنا إبستمولوجيا كون T.Kohn في إبراز المنطق الذي يحكم التطورات الداخلية للنظرية اللسانية والميكانيزمات التحويلية والباراديكمات العامة التي أفرزت الوجه البنيوي والوجه التوليدي لهذه النظرية. وباعتماد إبستمولوجيا لاكاطوس I.Lakatos أدركنا القانون المتحكم في نشوء الفرضيات وارتقائها وموتها. وأفادتنا إبستمولوجيا بوبر K.Popperفي اختبار فرضية ندعي من خلالها أن تشومسكي هو الصورة اللسانية (أو التنفيد اللساني) لبوبر. واستفدنا من أركيولوجيا فوكوM.Foucault في تحديد هوية الخطاب اللساني، وذلك من خلال تحديد الواقع الذي يقوله وكيف يقوله. حاولنا استعادة كل هذه الإبستمولوجيات على اختلافها، بهدف بناء تصور متكامل لعله يسعفنا في الاقتراب أكثر مما يخفيه الخطاب اللساني من أسس وبديهيات عميقة نعتبرها الميكانيزم المحرك لكل ما يموج في السطح. وتقتضي الإجابة عن السؤال الثاني اختبار درجة الإسهام الذي ساهمت به النظرية اللسانية (بنيوية وتوليدية) في تقدم المعرفة العلمية، سواء أكان ذلك عبر طرح أسئلة جديدة أم بإعادة صياغة أسئلة قديمة. وتبين لنا أن السؤال الذي يمكن أن نفاتح به النظرية اللسانية سؤال وجودي في العمق، صغناه انطلاقا من تصور كنطي محض، وهو: إذا أمكن للنظرية اللسانية أن تدعي أنها معرفة، فهل يمكن اعتبار هذه المعرفة ممكنة؟ ما هي الشروط الموضوعية، وربما الذاتية أيضا، المتوفرة لقيام هذا النوع من المعرفة؟ قيام السؤال الكنطي هذا نابع من الرغبة في معرفة سر الإفراط في الثقة بالنفس التي يتظاهر بها الخطاب اللساني والتي تعبر عنها شهرته الواسعة واختراقه لبعض المعارف الإنسانية (الأنتروبولوجيا، التحليل النفسي، النقد الأدبي...) التي ساهمت في تضخيمه نتيجة فقر أو أزمة ألمت بها. كما تعبر عنها جرأته في صياغة المفاهيم وبناء التصورات، حتى إن المرء ليندهش متسائلا: كيف أمكن لهذا "العلم" أن يتجرأ على إعادة إحياء تصورات ومفاهيم قديمة بمجرد اعتماد أسماء جديدة؛ فيعبر عن الوحدة والانسجام بالبنية، وعن السليقة بالقدرة، وعن التقدير بالعمق، وعن ظاهر اللفظ بالسطح، وعن الفطري بالبيولوجي الذي ليس بيولوجيا، وعن الواضع بالمتكلم المثالي..، وغير ذلك مما عرفته جل الثقافات؟ وبخصوص السؤال الثالث، فإن ما يبدو هو أن النظرية اللسانية لم تستطع بعد التخلص من سيطرة العقلية المنطقية حتى يمكنها تأسيس موضوع خارج المنطق. كل شيء في الخطاب اللساني هو من إنتاج المنطق، رغم أن مؤسساته، كاللغة واللسان والمتكلم والمخاطب والبنية الصوتية والبنية التركيبية والبنية الدلالية...، توحي بعكس ذلك. فالاختبارات الأولى تبين أن هذه الأمور كلها مجرد تصورات افتراضية أو هي من إملاء المنطق. ثم إن هذا الخطاب يميل إلى أن يؤسس قوته على خطابات أخرى، أهمها الخطاب الإبستمولوجي. و هو يعادي الواقع وينفيه حتى وإن تظاهر بعدم التعارض مع الخطاب العلمي الحق الذي لا يغيب الواقع فيما نعتقد. فحضور أسماء كالفيزياء والكيمياء والطبيعيات والبيولوجيا.. هو حضور من أجل التأثيث ليس إلا. فكأننا، والحالة هذه، أمام حالة يمكن أن نسميها بسوء النية. توضيح الأمور بهذا الشكل يعفينا من التفكير في السؤال الرابع، ويصبح من باب تحصيل حاصل القول: إن النظرية اللسانية، في صورتيها البنيوية والتوليدية، لم تستطع أن تقنع كل المفندين والداحضين بجدواها أو بضرورتها، خاصة وأنها لم تستطع أن تحسم في مسألة موضوعها فبالأحرى القضايا الأخرى التي تترتب عن هذا التحديد. أما الحديث عن النحو والقواعد وما يتصل بهما من "تمارين" فليس في نظر المفندين سوى مجرد هروب إلى الأمام من أجل إخفاء المشاكل الكبرى. إننا لم نختر هذا الإطار الذي قررنا أن نتحرك فيه بدافع سوء النية، كما بينا، وإنما اخترناه بقصد الاختبار فقط. اختبار الأسس بعد استنباطها والنتائج بعد مقارنتها مع ما يحصل في العلوم الأخرى. هكذا خصصنا مدخلا تحدثنا فيه عن الخطاب اللساني، محددين أسئلته وأسسه وبلاغته ومبررات وجوده، ومبرزين طبيعته المفاهيمية، مكتفين بالوقوف طويلا عند واحدة من أهم خصائصه، وهي اعتماد النمذجة. ثم قسمنا العمل إلى قسمين؛ خصصنا الأول للحديث عن اللسانيات البنيوية، باعتبارها فصلا من فصول التجريبانية، والثاني للحديث عن اللسانيات التوليدية، باعتبارها فصلا من فصول العقلانية. اشتمل القسم الأول على فصلين؛ خصص الأول منهما لاستنباط أسس البنيوية كما عرفت في أوربا؛ عند صوسور F.de Saussure أولا، ثم عند الحلقات التي ظهرت من بعده ثانيا؛ براك Prague بثقافتها الشكلانية الروسية، وكوبنهاكن Copenhagenالتي يحركها هاجس المدلول، والباريسية المناصرة للسانيات القول. وخصصنا الفصل الثاني لرسم الصورة الأمريكية للبنيوية، وهي صورة بدت لنا مغايرة، تماما، لنظيرتها الأوربية. وهكذا، فإذا اقترح تشومسكي تقسيم اللسانيات المعاصرة إلى لسانيات تبحث في القدرة (Compétence)(لسانيات قدروية) ولسانيات لا تبحث فيها (لسانيات لا قدروية)، وذلك لغرض يهمه، فإننا اقترحنا أن نقسمها إلى لسانيات تأملية، كاللسانياتالتوليدية وبعض الاتجاهات البنيوية كالكلوسيماتية (Glosématique)، وإلى لسانيات ذرائعية (Pragmatique)، كالوصفية الأمريكية. وربطنا بين هذه الأخيرة وبين النزعة الغائية أو النفعية كما سادت في أمريكا طيلة المنتصف الأول من القرن العشرين فشكلت ما يمكن أن نسميه باراديكما (Paradigme)أمريكيا اختلف عن ذلك الذي ساد في جهات أخرى في تلك الفترة. هذا الاقتراح هو الذي مكننا من فهم العلاقة القوية التي ربطت بين اللسانيين الوصفيين وبين علم النفس البيهافيوري (Behaviorisme) الذي اعتبر واحدا من أسسهم. واشتمل القسم الثاني على ثلاثة فصول؛ الثالث والرابع والخامس. خصصنا الفصل الثالث لتحليل البنية الحجاجية لتشومسكي، وهي بنية تبين لنا أنها تقوم على حدس مركزي مزدوج: التفنيد والاستثمار. فالتفنيد واحد من الأسس المعتمدة عند تشومسكي وبه يمهد لمشروعه؛ فلا حديث عن الفرضية الفطرية إلا بعد تفنيد الأساس البيهافيوري للسانيات الوصفية، ولا عن الأسلوب الكاليلي إلا بعد دحض أساسها الباكوني التجريباني. كما أنه لا حديث عن لسانيات للغة الطبيعية إلا بعد تفنيد ما يدعيه بار-هيلل ((Bar-Hillelالوضعاني من ضرورة معاملة اللغة الطبيعية بنفس الطريقة التي تعامل بها اللغات الصورية. ولا حديث عن قبلية المعرفة اللغوية إلا بعد دحض الأساس التكويني لنظرية بياجي. أما الاستثمار فقصدنا به العملية التي يستعيد بها تشومسكي آراء ومواقف العقلانيين من فلاسفة (أفلاطون وديكارت خاصة) ولغويين (بور- رويال وهمبولدت) وباحثين في الأنساق العارفة (لينبرج E.H.Lenneberg) وإبستمولوجيين (بوبر) وغيرهم ممن كان لهم حضور في النسق التصوري لتشومسكي. أما الفصل الرابع فقد خصصناه لاستكشاف الأسس والمبادئ النظرية والمنهجية التي شكلت خلفيات لتشومسكي خاصة والنحو التوليدي عامة. وهكذا حصرنا البنية التصورية لتشومسكي في ثلاث قضايا، هي: اللغة كإبداع (Créativité)، و اللغة كنظام من المعرفة، والنحو الكلي (Grammaire Universelle)كفرضية لتفسير القدرة. وربطنا بين القضية الأولى وبين ما سماه تشومسكي بمشكلة ديكارت، ثم بين القضية الثانية وبين ما سماه بمشكلة أفلاطون، ثم بين القضية الثالثة وبين ما يمكن أن نسميه نحن بالأنساق التفسيرية. أما بخصوص المنهج الذي اعتمده تشومسكي، فإننا ملنا إلى القراءات التي تدعي أنه يستمد أسسه من العلوم الافتراضية الاستنباطية، أو ما أطلق عليه اسم العلوم ذات الأسلوب الكاليلي. ولم نتوقف في هذا عند حدود الافتراض، فقررنا تعقب تشومسكي في دروبه ومنعرجاته حتى نتأكد من هذه الكاليلية في أسلوب التفكير والمنهج. وفي الفصل الخامس، حاولنا أن نقف عند بعض نماذج التفنيد الذي تعرضت له النظرية التوليدية، وبينا أنه رغم الشهرة الواسعة التي حققتها هذه النظرية، فإنها لم تحظ بإجماع المهتمين سواء في موضوعها أو في أسلوب مقارباتها أو في الأسس المعرفية التي اعتمدتها. وهكذا وقفنا عند الاعتراضات التي تقدم بها علم النفس البيهافيوري ممثلا في أتباع سكينر(B.F.Skinner)، وعلم النفس التكويني ممثلا في المدرسة التي تزعمها بياجي، وعلم الدلالة ممثلا في جماعة المعترضين على خلو النحو التوليدي من الدلالة أمثال ماك كاولي(Mc Cawley) وكاتز(J.J.Katz) وبوسطل (M.Postal)،والتداوليات ممثلة في سيمون ديك (S.Dick)، والسوسيولسانيات ممثلة في كالفي(L.J.Calvet)، دون أن نغفل الإشارة إلى الإسهام النقدي الذي ساهم به فلاسفة ولغويون عرب. فسقنا، كنموذج لذلك، مساهمة علي حرب الفيلسوف ومساهمة أحمد العلوي اللغوي. واقتصرنا على هتين المساهمتين، دون غيرهما، لما بدا لنا من روح الأصالة الذي تحلت به كل منهما. هذا، ولابد من الإشارة إلى أننا، في هذا الفصل، كنا أكثر إيجازا لما لاحظناه من أن الفصول السابقة قد اشتملت على إشارات إلى بعض الوقفات الاحتجاجية ضد النحو التوليدي(La Grammaire Générative)، فارتأينا أن لا داعي لإثارتها من جديد. هذا، ولم نسمح لنفسنا في أية لحظة من لحظات هذا العمل أن نكون متحيزين ضد النظرية اللسانية المعاصرة، بل حاولنا أن نبدي عن كثير من المرونة جسدناها في محاولتنا الدفع بهذه النظرية إلى أقصى بل إلى أفضل حدودها، لأن من أهدافنا إخضاع النظرية للتحليل ولا شيء سوى التحليل، معتمدين، في ذلك، على ما توفر لدينا من أطر إبستمولوجية كالتي ذكرنا، وعلى ما جمعناه من خبرة اكتسبناها من معاشرتها لمدة طويلة. ولم يكن هدفنا، بالتالي، هو التنفير أو تبخيس المحاولات التي تروم القيام بتجديد الفكر البنيوي أو الفكر التوليدي. لكن الذي يجب أن يعلمه المجددون المحتملون هو أننا قد انتقلنا إلى عصر جديد ومختلف، عصر يحتاج إلى نظريات لغوية تستطيع أن تبرز كل إمكانات التواصل التي توفرها الأداة اللغوية. فإبستيمة العصر الجديد لم تعد هي معرفة الأنساق المغلقة، كما فعلت البنيوية القديمة، ولا هي معرفة ما هو فطري وما هو مكتسب، كما فعلت التوليدية الكلاسيكية، وإنما هي التواصل وتحقيق التواصل. إن اهتمامنا بأسس النظرية اللسانية المعاصرة لا يعني الانكباب على دراسة تاريخها الطويل (قرن من الزمن تقريبا) أو تاريخها الخطي بقدر ما يعني الانكباب على دراسة عمقها أو طبقاتها الرسوبية، حيث ينحصر الاهتمام في استنباط أسسها وثوابتها وكذا توازناتها القارة التي لم تعصف بها التقلبات الزمنية والتي كساها الدهر بغبار الثقافات (المدارس) المختلفة. مما يفرض البحث عن الخيط الرابط بين تلك المدارس لتبقى النظرية اللسانية واحدة رغم وجود بنيوية ووجود توليدية، ورغم تعدد التصورات. لقد تطلب الأمر منا القيام بتجريد هذه النظرية من كل أرديتها وتلويناتها التي تفنن المنظرون اللسانيون في صنعها، ثم الغوص في أعماقها والحفر في سراديبها قصد استكناه حقيقتها. وهو ما دفعنا إلى أن نسأل، وبشكل عام: ما هي الطبقات الرسوبية المكونة لجيولوجيا النظرية اللسانية؟ وما هي عناصرها الجينية ؟ ثم ما هي العلاقة التي تربط بين هذا الكائن النظري وبين فعل النظر عموما وخاصة منه ذلك الذي تمارسه العلوم الإنسانية؟ وهذا سؤال يحيل على سؤال أعم نطرحه بهذه الصيغة: ما الشيء الثابت الذي يقف وراء هذا التعدد الذي يحاصرنا من كل جهة ؟ ومن الأسئلة التي ارتبطت بإطار العمل الذي اخترناه السؤال: أصحيح أن تاريخ اللسانيات المعاصرة هو تاريخ قطائع وأن اللاحق منها لا يكرر السابق؟ وهو ما فرض علينا، مرة أخرى، الارتباط بالأسس والمبادئ العامة، لأنها المستوى الوحيد الذي يمكن أن تتحدد فيه القطيعة أو الاستمرار. أما أشكال المعرفة فلا تفيد في ذلك، بل هي خادعة وضالة. إننا ندرك أن المعرفة، كتجل، تتطور بسرعة تفوق السرعة التي تتطور بها الأسس والمبادئ العامة التي تنتجها، حتى ليبدو أن التطور على مستوى الأسس تطور بطيء، وقد لا يراعى عند الدراسة السانكرونية للنظرية اللغوية، أي لعقود من الزمن. ومن هنا جاء سؤالنا: ما هي الأسس والمبادئ العامة والثابتة التي على أساسها تم التمييز بين اللغة واللسان والكلام عند صوسور، وبين المتكلم المثالي والمتكلم الفعلي أو بين النحو الكلي والنحو الخاص عند تشومسكي مثلا ؟ اعتبار التغير في الأسس والمبادئ الكبرى هو الذي قسم تاريخ العلم، على أساسه، إلى مراحل كبرى ومتباعدة. فتكلم أوجست كونت(A.Comte)، مثلا، عما أسماه بالمرحلة الأسطورية والمرحلة اللاهوتية ثم المرحلة الوضعية للعلم، وقبله تحدث فرنسيس بيكون (F.Bacon)عن مرحلة اللاعلم، وهي المرحلة التي تميزت بالاستخفاف بالمعرفة القائمة على التجربة، ثم مرحلة العلم، وهي المرحلة التي تميزت بالاعتراف بالتجربة كوسيلة لبناء المعرفة. وقسم جان بياجي تاريخ العلم وفق نفس التقسيم الذي اقترحه لدراسة نمو المعرفة عند الإنسان؛ فهناك المرحلة الحسية ثم المرحلة التصورية أو مرحلة الاستيعاب والتمثل فمرحلة التعقل فالمرحلة الصورية. وتقدم طوماس كون بقراءة أخرى لتاريخ العلم ومنطقه، فتوصل إلى أن العلم عرف عصورا متمايزة، يعرف كل منها بالنموذج المعرفي السائد (الباراديكم). وهو ذلك النسق التصوري الذي تنتظم فيه نظريات العلم في كل المعارف والذي يسير العلماء على طريقه إلى أن يظهر ما يفنده. هكذا تم التمييز بين مرحلة العلم الكوبرنيكي وبين المرحلة التي سبقتها، وكذا بين الزمن الأوقليدي وما بعده. والذي يستفاد من كل هذا هو أن العصور المعرفية، وهي عصور ترتبط بالأسس، متباعدة حتى وإن سلمنا بنسبية هذا التباعد. إلا أنه يلاحظ أنه كلما تقدمنا في الزمن كلما أصبحت أعمار العصور العلمية تتقلص، نظرا لتقدم وسائل البحث وتوفرها. وهو أمر انعكس، لا محالة، على التحقيب الزمني للعلم. سيلاحظ القارئ، أيضا، أننا لم نرم، في هذا العمل، بناء جهاز صوري من طبيعة تمثيلية لمقاربة فكر استدلالي هو الفكر اللساني المعاصر في صورتيه البنيوية والتوليدية، ولكننا رمنا نهج ما يسمح به العمل الإبستمولوجي من إبراز مقدمات هذا الفكر وأكسيوماته، والبحث في أسس تلك المقدمات والأكسيومات باعتبارها عناصر مؤسسة تنتمي إلى البنية المعرفية الداخلية للنسق اللساني، وذلك بربطها بمقدمات وأكسيومات نظيرة تطورت في علوم ومعارف أخرى. بعبارة أخرى، إننا رمنا الإجابة عن سؤال هو: ما النسق المعرفي المهيمن (الباراديكم بلغة كون) الذي لعب دورا حاسما في ظهور الأنساق اللسانية؛ البنيوية والتوليدية خاصة ؟ أي إن سؤالنا مرتبط بسؤال التكون: كيف نشأ الخطاب اللساني المعاصر؟ ما هي أسسه؟ وما هو سياقه المعرفي؟ هدفنا من وراء ذلك فهم حقيقة هذا الخطاب والحد من الاستمرار في بقائنا نهبا للضلالة التي تحدثها قفزاته، وضحية لتغير أقنعته.ولقد صدقت ميتسو رونا (Mitsou Ronat)، وهي محاورة جيدة لتشومسكي، حينما قالت:" إن سوء الفهم الذي عانى منه النحو التوليدي، في البداية، يعود بالأساس إلى أنه ظهر دون تقديم إطاره الإبستمولوجي الذي استوحاه من بوبر، ففهم خطأ على أنه مبحث من مباحث الأدب" . وفي كل هذا وذاك، حاولنا أن نقترب من النصوص وأن نستنطقها حتى لا نسمح لنفسنا بالتحليق بعيدا عن الحقيقة. واعتمدنا في ذلك على المظان الاستراتيجية مباشرة إلا فيما ندر، بحيث ربطنا اتصالا مباشرا بالأعلام الرواد للنظرية وبنظرائهم من الإبستمولوجيين والفلاسفة الذين استثمرنا أطرهم في قراءة هذه النظرية. وحتى لا تفوتنا الفرصة، لابد من الإشارة إلى مشكل قلما يشار إليه في الأعمال الكبرى تصغيرا له، وهو مشكل الترجمة. فأغلب مراجعنا ومصادرنا هي باللغة الأجنبية (فرنسية وإنجليزية خاصة) الأمر الذي تطلب منا القيام بعملية مزدوجة: الترجمة ثم القراءة. وهي عملية تنطوي على صعوبة كبيرة خاصة وأننا شعب مزود بترسانة من المفاهيم والتصورات التي ورثناها عن الأسلاف من لغويين وفلاسفة ومناطقة وأصوليين وبلاغيين. مفاهيم يطرح استدعاؤها واستثمارها عدة مشاكل لسنا بصدد إثارتها. وهي، في المجمل، تشكل عائقا عن فهم الفكر اللساني الغربي الذي لا يمت بصلة إلى ثقافتنا القديمة رغم ما قد يفهم من وجود تقاطعات وتماثلات نعتقد أنها مجرد تقاطعات وتماثلات عارضة وشكلية لا إشكالية. ولذلك، فإن أول ما يواجهه الباحث العربي في هذه الأمور هو كيفية التخلص المؤقت من هذه الترسانة. إذ بدون ذلك سيقع ضحية الإسقاطات التي تفسد عليه بحثه وتوقعه في مزالق تصورية ومنهجية لا أول لها ولا آخر. ولشد ما أخافنا اعتراف أحد المترجمين الجيدين العرب، وهو يقدم ترجمته لأحد الأعمال الفلسفية الغربية الكبرى، حينما قال:"إن من أهم شروط ترجمة النصوص الفلسفية استيعاب إشكاليات الفكر الذي نريد صياغته بالعربية، وفهم الرهانات التي نعمل على كسبها، قبل الإبحار في نقل فلسفة من لغة إلى أخرى، والمغامرة باستنباط مواقف قد لا تكون دائما أمينة لروح تلك الفلسفة، وملائمة لاعتباراتها الفكرية والعقدية. فأمر ترجمة النصوص الفلسفية يتجاوز مجرد الإتقان اللغوي والمعجمي، ليتصل بثنايا الفكر الذي نريد التعبير عنه في غير لغته، وفي غير أفقه الفكري والمعرفي." والهدف من هذا الاعتراف/التحذير هو " تبيان أهمية ما وراء النصوص من مواقف يؤدي الجهل بها إلى تشويه رأي الفيلسوف الذي نريد تكريمه والإشادة بفكره من خلال ترجمة نصوصه." كما أخافنا ما عبر عنه آخر ببلاغة من " أن الذي بيننا وبينه (الفسلسوف المترجم له) اللغة التي نتكلمها نحن، قبل اللغة التي يتكلمها هو، بل إن الذي بيننا وبينه ليس اختلاف اللغتين والمسافة التي تفصل بينهما كما تفصل بين كل لغتين مسافة. إنما الذي بيننا أن تلك المسافة لا تطويها الترجمة، مهما أغلظنا "شرائط الترجمان"، لأن الأمر، لدى منتهاه، لا يتعلق بهذا اللسان أو ذاك، بل يتعلق بالقول عينه، عن أي موقف يصدر." ولا داعي للتذكير بأن تخوفنا، والحالة هذه، نابع من أننا، نحن أيضا، بصدد قراءة فكر لا يمكن إنكار بعده الفلسفي. ورغم كل ما ذكرنا، فإننا لا ندعي لهذا العمل المتواضع الكمال والتوفيق، فهو مجرد لبنة صغيرة نرجو أن تجد لها مكانا في هذا الصرح الذي يشارك في بنائه كل زملائنا الباحثين في ربوع هذا الوطن.